لبنان ينتفض: مليونية ضد الحرامية

وليد حسين

الأحد 2019/10/20
ما أن وصلت إلى ساحة الشهداء، حتى طالعتني لافتة وضعت على عمود إشارة السير أمام جامع الأمين، كُتب عليها "نحو مجلس الحرامية.. استعادة الأموال المنهوبة". ورُسم على اللافتة سهم يرشد المارة إلى الشارع المؤدي إلى ساحة رياض الصلح، والذي يقبع مجلس النواب على أحد تفرعاته، وفي نهايته تقبع السرايا الحكومية. اللافتة تختصر ما قاله اللبنانيون في الشوارع على مدى أيام ثلاثة، بعدما كانوا يرددونه في بيوتهم وغرفهم المغلقة على مدى عشرات السنوات، ليس خوفاً، بل انكفاءً وتسليماً. أما اليوم فانطلقوا يقولونه بقوة في العلنية العامة المشتركة.  

مجالس الحرامية
أشق الطريق بصعوبة بين الجموع، بهدف الوصول إلى حيث يدلّني السهم الذي رسمه أحدهم على تلك اللافتة، التي بدت شبيهة بالتي تضعها البلديات لإرشاد السيّاح والمارة إلى المعالم الأثرية وشوارع المدن، رغم أن الوقت ما زال باكراً على بدء توافد اللبنانيين من المناطق كلها.

أصل إلى تلك الساحة، التي باتت محجّة للبنانيين الغاضبين من حكّامهم، حيث تكدّست الأسلاك الشائكة بمسافة أمتار فاصلة بين الجموع ومقري مجلس النواب والسرايا الحكومية، فتطالعني مئات قصاصات ورق زرعها الناشطون على تلك الأسلاك، وكُتبت عليها أسماء النواب والوزراء الحاليين والسابقين، كلٌ على حدا، مع كلمة "حرامي".

تجاوز 14 و8 آذار
ما هي إلّا ساعات قليلة حتى امتلأت بالمواطنين والمواطنات ساحتا الشهداء ورياض الصلح والطريق الواصلة بينها وبعض الطرق الفرعية، وصولاً إلى مبنى النهار. أتوا مع عائلاتهم ليشكلوا مشهداً مليونياً تجاوز مليونية 14 آذار عدداً وسياسة، لا بل انقسام 8 و 14 آذار. آنذاك كان المطلب الخلاص من الوصاية السورية، والحصول على الاستقلال والسيادة. أما اليوم فقد انقلبت المعادلة: بات المطلب الخلاص من الحكّام و"الحراميي"، كما دلّت هتافات المحتشدين أفراداً ومجموعات.

وإذا كان ما يميّز هذه المليونية اللبنانية، هو حضور العائلات التي خرجت للتعبير عن سخطها والقهر الذي مورس عليها طوال السنوات السابقة، فالمجموعات المدنية والمهنية والحزبية والمناطقية وحتى الشللية، ميّزت هذا المشهد اللبناني غير المسبوق في تاريخ الجمهورية. فبعيداً من الشتائم والسباب التي أطلقتها المجموعات وطالت جميع المسؤولين من دون استثناء، والتي تعبّر بفصاحة وبلاغة واضحتين عن معاناة "الشعب" مع حكامه، كانت هتافات المجموعات وشعاراتها تقول: طفح الكيل وعلى الجميع الرحيل، و"خلصنا إكزوتانيل"، كتبت مجموعة من الصيادلة على قصاصات الورق الصغيرة التي رفعوها. أي كفانا مهدئات ومسكنات لأوجاعنا، نريد الخلاص منكم، لم نعد قادرين على تحمّلكم. وما لم يقله الصيادلة بوضوح صريح، قاله ذاك الرجل الستيني البائس المحمول على الأكتاف: "بدنا ثورة ع الحكام... بدنا نسقّط الحكام ثمانية وعشرين ومية... بدنا نسقط الحكام ورئيس الجمهورية... بدنا يفلوا من لبنان". وراحت الجموع خلفه تردد ووجعه بلا خوف أو وجل، بل بفرح.

انطلاق الكلام
"قلت بنزل نص ساعة، لكن ما عاد إلي قلب فلّ. بيقوى نبضو الواحد بها الناس"، قال لي رجل مسنّ يجلس على حافة الشارع، بينما كنت ألقي السلام على أحد الأصدقاء. وراح الرجل يتحدث عن طبيعة عمله المهني المتقطع، لتحصيل مال متيسّر أو متعثر من المؤسسات التي يعمل معها. وراح يتبادل أطراف الحديث معنا. تآلف هذا الرجل مع المشهد الذي لم يره من قبل، ولم يجد غربة في التحدث مع الآخرين، ما يشي أن هموم الجميع واحدة، ونبضهم واحد، وجعلهم يندفعون إلى الشارع بعدما ضاقوا ذرعاً بالمسؤولين والسياسيات المفقرة المتّبعة منذ عشرات السنين.   

زعماء يحرسون صورهم
إسوة بباقي المدن والمناطق اللبنانية المنتفضة، والتي تكللت بمليونية بيروت بعد ثلاثة أيام على الهيجان الشعبي، كان اللبنانيون في معظم عواصم دول العالم، يصدحون بصوت أقرانهم في لبنان: "كلن كلن حراميي"، و"الشعب يريد إسقاط النظام".

فالمغتربون الذين يعمل الوزير جبران باسيل على إعادتهم إلى لبنان، أي إلى حتفهم (وقد نال باسيل من السباب والشتائم ما لم ينله أي مسؤول آخر)، أخرجوا ما في دواخلهم التي لا تختلف عن أقرانهم في الساحات اللبنانية، رغم عيشهم الرغيد في مهاجرهم. وإن دلّ هذا على شيء، فهو يدلّ على أن السخط الذي اكتنزه اللبنانيون على مرّ السنوات عصي على الامحاء والاندثار. فبعدما كانت أحاديث الناس عن الفساد والهدر والفاسدين لغواً كلامياً يقال في البيوت والصالونات والحانات، بات اليوم صرخة يطلقها الجميع في العلن على مسامع الجموع في الساحات والشوارع، وأمام عيون جميع أعيان الدولة، الذين راح بعضهم يضعون الحراس أمام صورهم الكبيرة في القرى والمدن، خوفاً عليها من تطالها نيران الغاضبين، غير ملتفتين إلى أن هيبتهم سقطت في شتائم الشارع، ولا تستطيع آلاف الصور ترميمها، مهما بلغت ضخامة و"قداسة".

لننتظر أياماً
قبل هذه الانتفاضة الشعبية تساءلنا عن هذه الثقة الزائدة بالنفس لدى سياسيينا، وعن عدم خروج الناس إلى الشارع لـ"قلب الطاولة" عليهم وعلى "الإصلاحات" المطروحة والقائمة المحاصصة وفرض المزيد من الضرائب، رغم خواء جيوب الناس وغلاء الأسعار وتآكل رواتب اللبنانيين، بفعل الأزمة الاقتصادية الصعبة. لكن ها هو الشارع ينتفض على حكامه وينعتهم بـ"الحراميي"، ويريد استرداد جميع الأموال المنهوبة. فهل يثأر الشعب ويقلب المعادلة التي حكمته منذ عشرات السنين؟ الأيام القليلة المقبلة ستكشف مدى متانة أو ضعف صوت الشارع.  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024