فرنسا تتخبط لبنانياً.. اللقاءات تتبدّد والمساعي تتجمّد

منير الربيع

الأربعاء 2021/04/07
تجاوز لبنان حدود الانحلال السياسي. في المعجم ربما لا وجود لغير كلمة الرويبضة لوصف سوء الأحوال اللبنانية. والرويبضة هو التافه الذي يتحدث في شؤون العامة. وربما ينطبق على هذه الحال وصف الروائي التشيكي - الفرنسي ميلان كونديرا في قوله: "هناك دائماً ما يكفي من الحمقى ليجيبوا. فالحمقى يعرفون كل شيء".

بكل أسف وأسى، هذا هو واقع الحال في لبنان: لا سياسة ولا رجال سياسة. معظمهم يعمل في هذا الحقل من دون أن يمتهنوه. قد يكون هذا الكلام عصبياً، ويخرج عن قواعد اللياقة الصحافية والمهنية. لكنه صار أكثر من ضروري.

ألاعيب باسيل
ففي ظل انعدام أي مسؤولية سياسية من أشخاص يضعون أنفسهم في خانة المسؤولين، وهم ليسوا إلا ألعوبانات في التسريب والترويج والتبخير لأنفسهم.

منذ أكثر من 48 ساعة عاش لبنان على إيقاع تسريبات متضاربة حول زيارة مرتقبة لجبران باسيل إلى فرنسا. تسريبات تؤكد وأخرى تنفي. والتفاهة الأكبر تجلت في ورود الخبر في صيغة سعي مدير عام جهاز أمني لترتيب موعد لباسيل مع رئيس فرنسا. ثم سارع رئيس الحزب المسيحي الأكبر إلى تسريبات مضادة تقول: لا يحتاج أي وساطة، وعلاقته مفتوحة مع الفرنسيين. ولم يتلق أي دعوة. وعندما تصله هو جاهز لتلبيتها.

وعلى هذا المنوال تتالت الأخبار أو التسريبات الباسيلية، لاستعادة صورته، وخوض مبارزة مع الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري.

الحريري يرفض لقاءه
ومنذ أسابيع سعى باسيل لترتيب زيارة إلى باريس، فلم يشأ الفرنسيون حصولها كي لا تصاب مبادرتهم بالفشل مجدداً. لكنهم في المقابل ابتكروا فكرة لجمع الحريري بباسيل، فرفض الحريري الفكرة، وأصر عليها باسيل لتعويم نفسه كلاعب أساسي وصاحب قرار.

وفي اليومين الماضيين تجددت الحركة الفرنسية التي حمّلت باسيل مسؤولية التعطيل. ورفض الحريري مجدداً لقاء باسيل. فبرز اقتراح عقد لقاء لبناني موسع في العاصمة الفرنسية. لكن فرنسا حاذرت عقده، لئلا يكون غير مضمون النتائج، كي لا يتكرر فشل مبادراتها.

وبعض المعلومات تقول إن الفرنسيين يبذلون جهداً لترتيب لقاء باسيل - الحريري وإنضاج ظروفه. وتفيد مصادر أخرى أن لا اتفاق بعد، والموضوع لم ينضج بعد مع الحريري.

إحباط فرنسي 
ويحاول باسيل رمي الكرة أمام الفرنسيين في ملعب الحريري مجدداً، باعتبار أن الأمر كله يرتبط بلقائهما.

ويرفض الحريري اللقاء بباسيل رفضاً قاطعاً، واقترح فكرة عقد لقاء لبناني موسع، ولو في لبنان، وحتى في قصر بعبدا، وليس في باريس. ولكن لا لقاء مع باسيل.

وهكذا أُحبط المسعى الفرنسي. ومجدداً اكتشف الفرنسيون خطأً متكرراً، مثل الخطأ الذي ارتكبوه عندما طلبوا من الحريري التنازل عن وزارة المالية. وأربك موقف الحريري الفرنسيين، ونسفت زيارة باسيل إلى باريس. والحريري سيتوجه إلى الفاتيكان بعد حوالى أسبوعين في إطار جولاته وتثبيت وجهة نظره.

عزلة عون وصهره
ويتحدث رئيس الجمهورية ميشال عون عن حماية حقوق المسيحيين، ومثله يفعل صهره جبران باسيل. أما البطريرك الماروني بشارة الراعي، فيتحدث عن الدستور والطائف وحماية الكيان والدولة ومؤسساتها.

وفيما يعيش رئيس الجمهورية وصهره عزلة سياسية ودولية، يستقبل البطريرك الماروني سفراء، ويحظى بدعم عربي ودولي. وتلتقي معه القوى اللبنانية، باستثناء التيار العوني وحزب الله.

ويبحث جبران باسيل عن أي فرصة لتعويم نفسه سياسياً. ويحاول فتح ولو كوة صغيرة يطل منها على العالم، ليقول إنه لا يزال قادراً على السفر ولقاء مسؤولين غربيين، مركزاً على فرنسا وروسيا، بعد العقوبات الأميركية المفروضة عليه. وفي المقابل، يزور الحريري الفاتيكان، بناء على دعوة وجهت إليه.

مأزق باريس
وليس غريباً على لبنان هذا الوضع السوريالي. فالتضارب في المواقف والمواقع، توازيه حقيقة المواقف الدولية حيال الأزمة اللبنانية. القوى الدولية تدعم مبدئياً المبادرة الفرنسية، على الرغم من ملاحظاتها الكثيرة واعتراضاتها على الأداء الفرنسي. الفاتيكان تدعم باريس، وتقف خلف مبادرتها، ولكنها في الوقت نفسه تدعم البطريرك الماروني بشارة الراعي. وتدعم خيار الدولة والمؤسسات في لبنان، بدلاً من الحسابات الضيقة.

وهذا، فيما تخرج باريس من مأزق في مبادرتها لتقع في مأزق آخر: منذ لحظة تنازلها عن مبدأ المداورة ووزارة المالية، إلى تنازلها عن حكومة المهمة، إلى تشكيل حكومة غير مكتملة المواصفات، وقبل ذلك عملها على إرضاء حزب الله، وصولاً إلى محاولاتها إرضاء ميشال عون وجبران باسيل.

وتدعم الولايات المتحدة الأميركية المبادرة الفرنسية، أو تؤيدها. ولكن ليس من نشاط أميركي فعال لمساعدة المبادرة على النجاح. ورفض الحريري اللقاء بباسيل، يستند على جملة معطيات وقوى خارجية: مصر، دولة الإمارات، وحتى بعض الجهات في وشنطن قد تكون داعمة له. فمصر كانت منذ البداية مع المبادرة الفرنسية، لكن خلافات عديدة حصلت منذ التنازل عن وزارة المال والمداورة، وصولاً إلى طرح توسيع الحكومة.

حسابات ماكرون الانتخابية
وأصبحت واضحة هذه التعقيدات كلها في المعضلة اللبنانية. وكان باسيل يقول دوماً إنه لم يعد لديه ما يخسره بعد العقوبات الأميركية عليه. وهو يريد تعويم نفسه سياسياً، وفرض نفسه على فرنسا. وسعى منذ مدة إلى ترتيب لقاءات مع مسؤولين فرنسيين. وجاء الرفض واضحاً، كي لا يكون اللقاء فشلاً جديداً للمبادرة الفرنسية، طالما أن لا ضمانات لتشكيل الحكومة. وبقي يحاول مع فرنسا بينما كان الجواب الفرنسي بأن اللقاء يجب أن يرتبط بتحقيق نتائج فعلية وملموسة. وهناك جهات سياسية محلية وخارجية استغربت أي خطوة فرنسية لاستقبال باسيل، لأنها تنطوي على تعويمه. فيما شهدت الأيام الماضية تواصلاً بين الفاتيكان والحريري، من خلال زيادة منسوب التنسيق مع السفير البابوي في لبنان.

ويرفع باسيل شعار حماية حقوق المسيحيين. وفرنسا لا يمكنها أن تكون متفرجة في هذه المسألة. فماكرون يبحث عن حلّ بأي ثمن لتشكيل حكومة في لبنان، تخدمه في انتخاباته الداخلية. ولا يمكنه القبول بأن يكون "عنواناً" لكسر الطرف المسيحي في لبنان. وهو ينظر هنا من منظور داخلي وحسابات انتخابية بحتة. وأي خطأ في الحسابات قد تستغله مارين لوبان في مواجهته. لا يريد ماكرون أن يظهر في نظر الفرنسيين خاسراً رهانه في لبنان، أو متخلياً عن طرف مسيحي أو مساهماً في كسره.

والأهم في ذلك، هو ما يتلقاه باسيل من رسائل فرنسية: أولها أن العقوبات الأوروبية عليه لن تكون في صالحه. فإذا اعتبر العقوبات الأميركية سياسية، لن يتمكن من قول ذلك عن العقوبات الأوروبية.

وقال ماكرون مرة إن فساد باسيل معروف وملفاته جاهزة. وحسب المعلومات فإن باسيل سيبلغ موقفاً فرنسياً قاسياً جداً. صحيح أن باريس تريد أي حلّ في لبنان، كي لا تخسر رهاناتها اللبنانية، لكن الأهم هو كيفية تلقف باسيل الرسالة، وكيفية تصرفه حيالها. بينما الأزمة تنتقل من متاهة إلى أخرى.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024