لبنان الطائفي: هل من حياد دائم بلا مساواة؟

فادي تويني

الثلاثاء 2020/07/28
في شباط 1998، طرح الرئيس الياس الهراوي مشروع الزواج المدني في مجلس الوزراء بغية مناقشته والموافقة عليه قبل إحالته المفترضة على مجلس النواب لدرسه وإقراره. إلا أن الطرح أتى مباغتاً، دون نقاش مسبق على المستوى الإجتماعي أو تحضير يُذكر، فما لبث أن تحولّ مادةَ سجال حادة مع دار الفتوى، وسواها من الهيئات الدينية، انتهت إلى سحبه من التداول ثم دفنه. وهذا تحديداً ما لا نتمنّاه لأي اقتراح ينطوي على حلّ عقدة إنّما هي في لبّ التكوين اللبناني.


ومن عِقَد هذا التكوين، فهوية لبنان المتعددة المذهب والدين إنما هي تحتل المرتبة الأولى من سلّم المخاطر، لا سيما حينما تتفاعل مع امتدادات إقليمية دينية كانت أو سياسية. فدعوة البطريرك الراعي من أجل حياد لبنان، أو ما سُمّيَ، في نسخته الملطّفة، "النأي بالنفس"، كان يُفترض أن يندرج في هذا السياق من حلّ العقد لو أنه أتى بعد تحضير، وبعد تعريف بالحياد لا كمسألة أخلاقيّة بل كمبدأ في السياسة الخارجية له شروطه، ومنها العسكرية، وبعد تعليله في الحاضر وفي السوابق التاريخية، وبعد طمأنة من هو في حاجة إلى طمأنة من اللبنانيّين. فما كانت الغاية من اقتراح يرتبط في جوهره بأمن لبنان أن يتحوّل، مرةً أخرى، شعاراً للمُماحكات الخارجية، ما أن يُطلق حتى يُسقَط، في تشكيك مستفيض، بأول طلقة نار مذهبية.


فمعضلة سياسة لبنان الخارجية وترجمتها في السياسة الداخلية لا تتصل حصراً بإشكالية التزاوج بين بُنية لبنان المتعددة الوجه وأولويات "حزب الله" الملتبسة الوجه، إنما هي تشمل أيضاً سائر الجماعات اللبنانية، لا بل سائر الأفراد، من حيث أنهم سواء لدى القانون في المبدأ. فإن تمايز فرد أو طائفة، أو أكثر، عن سواها في الحقوق، خلافاً للقانون، ولو بعذر مستحدَث في الممارسة أو الأعراف، فعلامَ يتضامن اللبنانيّون، حينئذٍ، وماذا يمنع الفريق المتضرّر منهم من أن يستجديَ الخارج لتسوية وضعه في الداخل؟ وعليه، فهل فعلاً من سبيل إلى حياد خارجي دائم دون تضامن داخلي معياره المساواة؟

فأيّ هي الطوائف الأكثر غُبناً في لبنان اليوم، والأكثر تضرراً على مستوى الأفراد؟ فعلى الأغلب، إنّها ليست إحدى الطوائف الثلاث الأكثر عدداً، ولو أنّ بعض هذه الطوائف الثلاث هو الأكثر قلقاً، بل ما عداها من طوائف، وما لذلك من تبعات مُجحفة بحق الأفراد في عجزهم عن الإسهام في مؤسسات الدولة بحسب كفاءاتهم، وتحمّل أعلى المسؤوليّات فيها. فمَن قال أنّ لا حقّ لبروتستانتيّ، مثلاً، في رئاسة الدولة والدكتور أيوب تابت كان خير دليل على العكس؟ أو ما المانع أمام سنّي أو أرثوذكسي في رئاسة مجلس النواب كما فعل الشيخ محمّد الجسر أو حبيب أبي شهلا، أو أن يترأس ماروني مجلس الوزراء، وإميل إده خير من تحمّل المسؤولية وأكثرهم إنتاجاً؟ أو قُل أيضاً، أيُّ منطق يمنع أرمني من حاكمية البنك المركزي، وجوزف أوغورليان هو المؤسس الفعلي لمصرف لبنان وواضع قوانينه في عهد الرئيس فؤاد شهاب؟


وماذا عن "الميثاق"، رُبّ سائل يسأل؟ لا ميثاق سوى الدستور، إنما هو الجواب المجرّد من الأساطير. فإن كان من تفاهم ضمني بين اللبنانيّين بعد الإستقلال، لم يُدوَّن لفظاً ولا خطّاً، فهو لم يكن حول توزيع المناصب السياسية بين الطوائف، إنما كان في عدم الإنحياز غرباً أو شرقا، أو الإندماج بطرف خارجي، من أجل المحافظة على تماسك الداخل على اختلاف ألوانه. وهذا يصحّ اليوم كما في الأمس.


وماذا عمّا قبل الإستقلال وإرث حقبة الإنتداب في التوزيع السياسي على أساس طائفي؟ إنّ الإنتداب الفرنسي ساعد اللبنانيّين على وضع دستورهم المدني، كما اعترف بحقوق الطوائف، فيما وضع القوانين المدنية (الفرنسية) الخاصّة بالأحوال الشخصية حيثما جاز تطبيقها. وأما بالنسبة إلى التمثيل النيابي وربطه بالقيد الطائفي، فذلك تمّ استناداً إلى رغبة اللبنانيّين أنفسهم. إذ عندما تقدم حاكم لبنان الفرنسي، ليون كايلا، في نيسان 1925، وذلك قبل إنجاز الدستور وانتخاب رئيس لبناني، بمشروع إصلاحات تضمّن قانوناً جديداً لانتخابات المجلس التمثيلي على أساس نسبيّ يعتمد اللوائح خارج القيد الطائفي، ما لبث أن انتفض اللبنانيّون، مسيحيين ومسلمين، وراسلوا باريس معترضين، مما اضطر وزير الخارجية الفرنسي آنذاك، أريستيد بريان، إلى إجبار المفوّض السامي، الجنرال سَراي، على سحب القانون وعدم إصدار قانون انتخاب لا يراعي المشاعر اللبنانية.


فالهاجس الطائفي المتجذر لدى الجماعات اللبنانية منذ الفترة العثمانية ونظام الملل فيها، وما رافقها من اضطهاد سياسي ومجاعة خلال الحرب الكبرى، خلّف مخاوف، خصوصاً لدى الأقليات، من طغيان فئة على فئة أخرى شبيه بما سبقه إبّان الحكم التركي. كما أنّ السلطات المحلية، أو بعضها، في فترات لاحقة، لم تتوانَ في التمسك بالقيد الطائفي وجعله أداة ضبط انتخابي تؤمّن التبعية اللازمة لزعامات طائفية حريصة على ديمومتها، كما هي الحال اليوم. وما الحركة في السنوات الأخيرة ("المركز المدني للمبادرة الوطنية") من أجل المطالبة بعدم تسجيل المذهب في سجلّات النفوس، والمراجعة القضائية المتعلّقة به، سوى تصحيح لمخالفة حقوقية مزمنة، إن تمّ تصحيحها فسوف يُنبئ ذلك بفك قبضة القيد الطائفي، ومعه الزبائنية الطائفية، عن اللبنانيّين ليعيد حقوقهم المدنية إلى نصابها الدستوري.


وعليه، فإنّ حَصْر الرئاسات الثلاث بثلاث طوائف دون سواها، بعرف مفروض فرضاً منذ الإستقلال، خلافاً للدستور، إنما هو الوجه المبالغ فيه للقيد الطائفي في السياسة، وتمييز مذهبي ضد من لا ينتمي من اللبنانيّين إلى الطوائف الثلاث، لا بل هو أيضاً تمييز ضد من ينتمي إلى هذه الطوائف الثلاث، بحيث لا حق لمن منها بمنصب سوى ما حُدّد له. ففي أحسن الحالات، لا حياة لصيغة طائفية جامدة مثل هذه الصيغة، منافية لمدَنية الدستور، إلّا ظرفياً أو لسبب موجبٍ إنتقالي محدود في الزمن. فما أن تخطت حدودَها الزمنية، في مجتمع متحرك عددياً وطائفياً، وبيئة إقليمية مضطربة، حتى تفسّخت الصيغة ومعها لبنان. فكان من الحريّ الإنتقال إلى صيغة مدنية أكثر مرونةً، خصوصاً بعد مؤتمر الطائف الذي حصر السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء دون سواه، أقلّاً من خلال مداورة بين الطوائف على الرئاسات الثلاث، والعمل على إنجاز مجلسين، كما نصّ "الطائف"، أحدهما (أو كلاهما) خارج القيد الطائفي.


فبالعودة إلى اقتراح البطريرك الراعي من أجل حياد لبنان وربطنا إيّاه بمبدأ المساواة، فالأمر ليس مادة تأمّل لبكركي فحسب بل لكل اللبنانيين، ولا هو ضرب من الترف، بل هو ضرورة سياسية لعدم التفرقة الداخلية التي ما زالت تُرَقَّع بتسويات جزئية نفِدت فائدتها، وتضاعف فسادها، لتغليف وضع جائر وحجّة للتدخلات الخارجية.


فإن كانت الجمهورية الفرنسية تقوم هي في الأساس على مبدأ المساواة، المقرون بالأُخوّة والحرّية، فلأنّ عدمه هو في أصل ثورتها. وكذلك أيضاً، فإن كانت الولايات المتحدة، دولة المؤسسات الدستورية بامتياز، لا تزال تضطرب سياسيّاً (ودونالد ترامب نموذجاً لذلك) من جرّاء خطيئتها الأصلية لاستثنائها الأميركيين من أصل إفريقي مما ورد في وثيقة إعلان الإستقلال، لا سيّما أنّ "جميع البشر يُخلَقون سَواسية"، فمِن الأعقل لنا كلبنانيّين، وعلى تواضع حجمنا، ذلك إن أردنا أن نُصْلح وضعَنا، أن نعترف بأنّ الإنهيار الذي وقعنا فيه ما هو إلّا القشور المتفسّخة من فساد في جوهر النظام الطائفي المتآكل الذي يقوم على التمييز بين اللبنانيّين، بدلاً من المساواة بينهم كما نصّ الدستور.            
                
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024