مار نصرالله بطرس صفير.. وسيرة البطاركة الموارنة

جليل الهاشم

الثلاثاء 2019/05/14

قلائل هم البطاركة الذين لم يتركوا بصماتهم في تاريخ لبنان الموغل في القدم والحديث، منذ أكثر من سبعمئة سنة من عمر البطريركية المارونية في لبنان، التصقت به والصق بها الموارنة، فكانا لا يفترقان لا في الشدائد ولا في الملمات ولا في أوقات الرخاء.

يحفظ التاريخ الحديث للموارنة أدوار بطاركتهم، منذ تأسيس لبنان، المعروف بحدوده الحالية، على يد بطريرك الاستقلال الأول، الياس الحويك، حين اختار من دون تردد، لبنان الكبير بدل لبنان المسيحي الصغير، المفصّل على قياس الموارنة، والمسيحيين معهم. وفي يقين البطريرك الحويك يومها، أن لبنان غير قابل للحياة إلا بضم الأقضية الأربعة إلى جبل لبنان. وهو الشاهد على ما حل بأبناء رعيته، نتيجة الحصار العثماني للجبل، فمات ثلثهم جوعاً وهاجر ثلث آخر هربا من الجوع، وبقي الثلث.

"حراسة" الاستقلال والسلم
واستمرت مسيرة البطاركة في حماية حدود لبنان ومؤسساته، مع البطريرك عريضه، مع إعلان الاستقلال، حين كانت البطريركية المارونية حارسة للاستقلال وصوناً له.

البطريرك المعوشي، رفض كل منطلقات الحروب الأهليه، ورفض خرق الدستور، بالتمديد لـ"الرئيس القوي" كميل شمعون، مخالفاً رأي الجماعة المارونية، وصولاً إلى المقولة الشهيرة للرئيس شمعون، أنه سيجعل العشب يملأ طريق بكركي، فبقيت بكركي وعاد الرئيس شمعون إلى كنفها.

مع البطريرك خريش ساد أيضاً منطق رفض الحروب، والحفاظ على المؤسسات، فوقع الصدام بينه وبين القائد المسيحي "القوي" حينها، الرئيس لاحقاً بشير الجميل، بعد أن جنحت الجماعة المسيحية إلى الحرب، وانخرط جماعة من الرهبان في الحرب. وفي كل مرة، يجد رئيس ماروني نفسه في فائض قوة، يستدرج بكركي لتسبغ عليه شرعيتها، فيكون الموقف دائماً، بكركي مع منطق الدولة وضد الحروب الأهلية.

التمرد على الفاتيكان
استقال خريش من منصبه بعد أن شعر بالإحباط والقرف من الوضع السائد، واحتدم الصراع على خلافته بين المطران يوسف الخوري، مطران صور حينها، المدعوم من القوات اللبنانية، والمطران إغناطيوس زياده مطران بيروت، التي تعتبر الأقوى والأكثر ثقلاً بين الأبرشيات المارونية.

عام 1986، كان الأساقفة الموارنة يشاركون في إعلان طوباوية رفقا الحملاوية، وعادوا إلى لبنان، ليلحق بهم، مرسوم فاتيكاني بتعيين المطران إبراهيم الحلو مطران دير القمر مدبراً بطريركياً، بعد استقالة البطريرك خريش، فانتفض مجلس المطارنة الموارنة على قرار الفاتيكان، خصوصا أنهم كانوا في روما وكان بالإمكان إبلاغهم أو مناقشتهم في أمر شغور منصب البطريرك بالاستقالة، فأرسلوا إلى روما رسالة شديدة اللهجة، ترفض بشدة تعيين وصي عليهم من قبل الفاتيكان، مشترطين الحفاظ على استقلاليتهم في تدبير شؤونهم، من دون الوصول إلى التهديد بالخروج من الكنيسة الجامعة.

"مشيئة روح القدس" وصفير
يروي أحد المطارنة المقيمين في الفاتيكان، في تلك الحقبة، أن دوائر الحاضرة الفاتيكانية فوجئت برسالة الأساقفة الموارنة، وطلبوا لقاء أي مطران ماروني ليستوضحوه حقيقة الأمر. وصودف حينها وجود المطران نصرالله صفير في الفاتيكان للمشاركة في اجتماعات لجنة "إعادة الحق القانوني الشرعي"، فطلب أمين سر الفاتيكان حينها سيلفستريني لقاء صفير، لاستيضاح الموقف، والتقاه لأربع ساعات، أسهب فيها صفير في شرح موقف الكنيسة المارونية، فأقنع سيلفستريني بصوابية موقف الكنيسة، ليحدد له اجتماعا مع قداسة البابا، حيث كرر صفير موقف مجلس الأساقفة، فأقنع البابا بدوره، وسحب المرسوم الفاتيكاني، وبدأ العمل على تحضير انتخاب بطريرك جديد.

انتخاب صفير بطريركاً، كان صدفة، وغير محسوب. إذ أنه كان خارج المنافسة، إلا أنها مشيئة "الروح القدس" الذي يحل على المطارنة، فينتخبون من بينهم بطريركاً. وهكذا اعتلى صفير سدة البطريركية، من دون أن يكون قد استعد لها. إلا أنه تسلح بالإيمان بلبنان الذي عايشه مطراناً، وشهد على حروب أبنائه من الموارنة، في ما بينهم ومع مواطنيهم. وشهد أيضاً على تخريب مؤسسات الدولة والكيان الموشك على الانهيار.

وضع البطريرك الراحل نصب عينيه أربعة أهداف عمل على تحقيقها خلال ولايته البطريركية، أولها وقف الحرب الأهلية، إعادة إحياء الدولة ومؤسساتها، بوصفها ضمانة عيش اللبنانيين مجتمعين، مسلمين ومسيحيين، إعادة وصل ما انقطع بين اللبنانين خلال الحرب، عبر المصالحات واللقاءات، وإعادة الحياة إلى المؤسسات الكنيسة وإبعادها عن الشؤون السياسية.

وما أن استتب الأمر للبطريرك صفير حتى سحب جماعة الرهبان من المتاريس والجبهات وأعادهم الى الأديار. وليست صدفة أن أول خروج له من الصرح البطريركي كان للقاء سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشهيد حسن خالد، وسعيه إلى إنجاز تفاهم معه ومع الإمام محمد مهدي شمس الدين، من أجل صياغة تفاهمات بين المكونات الروحية الأساسية في لبنان، لوضع حد للحروب العبثية، إلا أن سقوط المفتي حسن خالد شهيداً، حال دون استكمال المشروع.

مع رفيق الحريري
توسم البطريرك في الرئيس الشهيد رفيق الحريري شريكاً مسلماً، للعمل على استنهاض الدولة. فكانت شراكة بينهما توجت في اتفاق الطائف، الذي رغم ملاحظات البطريرك على بعض بنوده، إلا أنه دعم الاتفاق وموقعيه من النواب الموارنة والمسلمين. وكانت خيبة أمله أكبر حين أوكل أمر تنفيذ الاتفاق إلى سلطات الوصاية السورية. فكان التنفيذ المشوه للاتفاق. وكان البطريرك أول ضحاياه من خلال تظاهرة عونية إلى الصرح البطريركي، أمعنت فيه تخريباً وإهانة للبطريرك، الذي رفض تولي الجنرال عون رئاسة الجمهورية حينها.

ولأن المصالحات كانت في صلب اهتماماته لم يتوان لحظة عن الإقدام على ملاقاة مساعي النائب الراحل سمير فرنجيه والنائب السابق فارس سعيد، والمحامي الراحل جان حرب، في إنهاء ذيول نزاعات المسيحيين والدروز الممتدة منذ العام 1860، فصعد إلى الجبل للقاء الزعيم وليد جنبلاط، واضعاً حداً للنزاعات وفاتحاً صفحة جديدة بين أبناء الجبل، وفاتحاً الطريق أمام عودة المهجرين إلى قراهم، خلافاً لرغبة سلطات الوصاية السورية حينها.

بطريرك السيادة
وبعد الانسحاب الاسرائيلي، بأربعة اشهر، أدرك حجم التخاذل المحلي في المطالبة بالسيادة، فأطلق من خلال مجلس المطارنة الموارنة النداء الشهير، الذي أسس للاستقلال الثاني، ورعى لقاء قرنة شهوان، بعد أن أوكل إلى المطران يوسف بشارة، رعاية اللقاء. فكان اللقاء الذراع السياسي للبطريرك ولنداءات مجلس المطارنة الموارنة وعظات الأحد للبطريرك صفير، وجسر العبور إلى المكونات اللبنانية باسم البطريرك الرافض لاستمرار الوصاية السورية على لبنان.

ولأنه أولى الشؤون الكنسية اهتماماً خاصاً، ساهم البطريرك صفير في تأسيس مجلس بطاركة الكاثوليك في الشرق، وأنجز السينودس من أجل لبنان، بشراكة بين العلمانيين من كل الطوائف ورجال الدين المسيحيين، ووضع شرعة الكنيسة للعمل السياسي، والمجمع البطريركي الثاني، الذي وضع دراسة رؤيوية للعقود العشرة المقبلة.

ومن أبرز الخلاصات التي توصل إليها المجمع، إضافة إلى الإصلاحات داخل الكنيسة، الموقف الجازم والصارم من الحروب، إذ جاء في متن بنود المقررات "أن أبناءنا قتلوا وقُـتلوا وتقاتلوا".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024