ماكرون "راعي" لبنان الجديد: النظام السياسي انتهى

منير الربيع

الخميس 2020/08/06

وحيداً تفقّد إيمانويل ماكرون جراح بيروت واللبنانيين. أطل على الكارثة، ناظراً في تداعياتها الزلزالية على بلدٍ، لفرنسا حصّة كبيرة في تأسيسه ما قبل إعلان لبنان الكبير. وهي احتفظت برعايته منذ العام 1920.

لبنان الغبار والدخان
نظر الرئيس الفرنسي إلى 100 سنة من التاريخ والإرث الفرنسي في لبنان وبيروت، ورأى أنها تتبدد كلها: الإرساليات والمدارس والنظام التعليمي مهددة بالانحدار والزوال. القطاع الاقتصادي، النظام المصرفي، الثقافة، الحرية، واحة الشرق والغرب، ومرفأ على المتوسط.. كلها تحولت إلى غبار ودخان. دخان أعمى أنظار المسؤولين اللبنانيين، ووحده ماكرون احتضن الشعب المنكوب، وسمع الشكوى ومسح الدمع.

إنه الرئيس الأول الذي يزور لبنان بعد الفاجعة، التي قد تنهي كيانه ونموذجه الذي صنعته باريس. يقول إنها منطقته الخالصة، وستبقى فرنسا هي الراعية والحريصة. واستقبله اللبنانيون كرئيس فعلي لهم، مرغوب ومطلوب. وهذا على عكس المنبوذين المتسلقين والمتسلطين بحكم الأمر الواقع والتسويات التي لا تفعل غير الإمعان بالمزيد من الإنهيار والخراب.

لقاء شعب ورئيس
تفقد ماكرون أهوال الناس وأوجاعهم، خسارات جنى أعمارهم، فيما المسؤولين الذين التقاهم منشغلين بالنميمة وتقاذف المسؤوليات. وكان واضحاً. التقى الشعب قبل المسؤولين، وقال إن المساعدات ستوجه مباشرة إلى الشعب اللبناني، وليس إلى المسؤولين. الثقة منعدمة بهم. ولبنان بحاجة إلى إصلاحات هائلة وجذرية.

وكأن فرنسا تقولها بالفم الملآن: هذا البلد الذي وضعت صيغته قبل 100 سنة، لا بد لها من أن ترعى صيغته الجديدة لـ100 سنة جديدة. مع فارق سقوط الدول والكيانات وانهيار المؤسسات.

من غير المعروف كيف ستكون وجهة البلد الجديدة. هل يعود لبنان الكبير موحداً، أم تدفعه العوامل الكثيرة المحيطة به إلى التشرذم وتصغير كياناته على أسس طائفية؟

نحو صيغة جديدة؟
فرنسا حريصة على الكيان، فلبنان نموذج وحاجة بصيغة التنوع التي فيه، فيما التجديد أو العصرنة قد تفرض هذا التنوع ضمن صيغة سياسية ودستورية جديدة، على قاعدة اتحادات المجتمعات المتنوعة في دولة إتحاد فيدرالي. وهذه نزعة يسعى إليها كثر في لبنان، ويعتبرون أنها قابلة للتحقق بعد كل هذا الانهيار، وبعد خسارة لبنان المرفأ الرئيس فيه.

الرسالة الفرنسية واضحة: لبنان بحاجة إلى تغيير جذري، قالها ماكرون علانية: "لم آت لأدعم الحكومة والسلطة، بل لأدعم الشعب". هذا الشعب يحتاج إلى إصلاحات حقيقية وعميقة. في لقاءاته مع المسؤولين كان ماكرون قاسياً. حمّلهم مسؤولية التدهور والتحلل، وعدم إقدامهم على أي خطوة جدية للإصلاح أو للحماية من الانهيار.

توجه إليهم بوضوح: إذا ما كانوا يريدون المهادنة والركون إلى تحمّل المسؤولية، ووقف مسارات التصعيد الخارجي، أم أنهم يريدون الاستمرار بهذا المراس الذي سيؤدي إلى مزيد من العزلة والانهيار؟

دويلات فيدرالية المرافئ؟ 
لا يبدو من المؤشرات الراشحة أن حزب الله وحكومته وعهده أبدوا تجاوباً مع الطرح الفرنسي بالحياد. فالحياد مسألة انقسام في لبنان. والرهان على الاستثمار في الوقت والانتظار قائم، ولا محيد عنه في ظل ارتباط لبنان سياسياً باستحقاقات إقليمية ودولية.

زيارة ماكرون ليست تفصيلاً. فهو الذي اعتبر أن لبنان يعيش حال فقدان كل شيء، ومنها الأخلاق. موقفه الأخلاقي التضامني، لا ينفصل عن موقف سياسي بعد الحادث الضخم الذي هز المرتكزات اللبنانية كلها. هناك شيء كبير حصل لا أحد يتمكن من تحمّل مسؤوليته. وهو حدث غير عرضي حتماً. ولا يخرج عن سياق التصعيد الدائر في المنطقة. تصعيد يحتاج إلى لملمة دولية، بدأت معالمها تتضح شيئاً فشيئاً.

يأتي ماكرون في سياق العملية الاستيعابية لما جرى، في ظل عدم قدرة أي طرف على تحمّل ما حصل. ويطرح الرئيس الفرنسي محاولة أخيرة: وجوب الالتزام بالشروط الدولية للمساعدة.

الزيارة خلقت مناخاً، يندرج في عدم وجود تفاهم في البلد. المسألة أصبحت أكبر من حكومة وتغييرها، ومن تشكيل حكومة وحدة وطنية. ومن يعتبر أن معركته مع حزب الله، لن يكون قادراً على ضرب الحزب أو إزالته.

هنا يأتي كلام ماكرون حول ضرورة التغيير السياسي في لبنان، أو طرح مبادرة سياسية حول الميثاق أو النظام. أي تغيير من هذا النوع، يفترض أن يُعطى حزب الله في السياسة أكثر مما يعطيه إياه ميثاق العام 1943. وفي حال انعدام الوصول إلى توافق فإن جزراً تقسيمية كثيرةً ستنمو على أنقاض بيروت ومرفئها، والذهاب إلى فيدرالية المرافئ. كل مدينة ساحلية ستبحث عن مرفئها.

لجنة تحقيق دولية 
لقاءات ماكرون لم تقتصر على الرؤساء، ولا على الأفرقاء السياسيين الذين شرحوا له وجهة نظرهم حول ما جرى ويجري. وطالبوا بتدخل دولي لحماية لبنان، ولمواجهة المسارات السياسية التي تقودها الحكومة الحالية ومن خلفها. طلبوا دعم فرنسا لتشكيل لجنة تحقيق دولية، وأبدوا حرصاً على لبنان بصيغته خوفاً من التحلل.

سمع ماكرون أن المسار القائم وسط التخلي الدولي عن لبنان، يخدم حزب الله، لأنه الأقوى والقادر على السيطرة والقضم، في ظل ضعف الآخرين ويُتْمهم. تعرف فرنسا ذلك، وهي المتمسكة دوماً بالشراكة بين كل القوى اللبنانية، بما فيها حزب الله. وذلك سيكون جزءاً من المبادرة التي ستطرحها باريس مجدداً. خاصة أن التواصل الفرنسي مع الحزب لم يتوقف، كما بين فرنسا وإيران.

المستجد الأساسي الذي طرأ على المشهد، هي لقاءات ماكرون الشعبية، ولقاءاته مع مشاركين أساسيين في ثورة 17 تشرين. وهؤلاء وحدهم قادرون على إحداث الفرق شرط تقديم رؤية سياسية متكاملة حول الحفاظ على لبنان وصيغته، بعيداً من النزاعات القائمة. نظرة قادرة على تجديد النظام من دون الانزلاق إلى خيارات جهنمية قائمة في المنطقة، وتجنح نحو مزيد من العصبية المذهبية والطائفية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024