كورونا العولمة: مسؤولية الدولة الوطنية

أحمد جابر

الثلاثاء 2020/03/17
الكل رابح في العولمة، هذا شعار رفعه الذين قالوا بالقرية الكونية الواحدة، ثم انصرفوا إلى التبشير بما ستحمله العولمة في ركابها، من ديمقراطية وتسامح وزيادة في الخيرات الداخلية، لكل بلد يلتحق بقافلة التطور التي تهدم الحدود بين الدول المختلفة، وتطلق "الحرية" الإنسانية من عقالها، وتسقط حواجز الانقطاع الجغرافيا، وتجعل مصافحة الوجه للوجه، واليد لليد، سمة أخلاقية جديدة، من ضمن منظومة أخلاقيات العولمة التي قصّرت المسافات، ووطدت عرى العلاقات المتبادلة.

وعود العولمة الخائبة
تجربة العقود المعولمة، التي غلب عليها طابع الأمركة في تسعينيات القرن الماضي، جاءت مخيبة، ولم تحصد الدول الوطنية التي صدقت الوعود المعولمة بأكثر من فتات رأسمالي دولي، جعلها تابعة أكثر، ومقيدة بقيود الإجراءات والسياسات التي تفرضها "دول المركز" الرأسمالي، ممّا انعكس تعثراً في الاقتصاد، وتوترات اجتماعية وفروقات "فئاتية" بين الشرائح المجتمعية. لقد ترافق الميل العولمي، وبسبب من طبيعته الاجتماعية التعميمية، بسياسات عدوانية لبست لبوس الاقتصاد، وتجلّت في مسائل المناخ والبيئة، وانفجرت حروباً في الميادين. النظرة الفاحصة لنتائج العولمة ووعودها، في البلدان التي أخذت بها، في الأوطان التي عاندت وحاولت مقاومتها، ماثلة للعيان في منطقة "الشرق الأوسط الكبير"، وواضحة بين بلدان المركز التي تهزّها سياسات الحماية التجارية، وجليّة بين مركز المركز، وما اصطلح على تسمية بلدان "النمو الآسيوي".

خلاصة العولمة، كما طرحها منظرو الرأسمال العالمي، وكما أفصح عنها قادة دول التجارة العابرة للأوطان، جعلت العالم سوق تبادل منتجات، وأفسدت ما كان قد بقي فيه من منظومة قيم وفلسفات إنسانية موروثة، وقلّصت مساحاتها المكانية، وفضاءها التواصلي الذي يربط بين تجربة إنسانية وطنية محلية، وبين تجارب الوطنيات المحلية الأخرى. حرية السوق، وحرية انتقال البضائع، ومنع الانتقال الإنساني. فالفرد غير مرغوب به إلاّ إذا كان على هيئة سلعة، وإلاّ إذا اختصر في شخصه مبدأ "نقداً وعداً"، واستجاب بوضوح لمبدأ "من يدفع يحمل"، هذا المبدأ القريب إلى جيوب "الأخلاق الرأسمالية".

كورونا دليل آخر
فيروس كورونا الذي انطلق من الصين، وَجَد من يرده إلى سبب الحرب الاقتصادية بين واشنطن وبكين، وفي بلادنا المبتلية بنظريات المؤامرة وهوسها وهلوساتها، برز عدد من محترفي الكلام "الشاشاتي" إلى منازلة سياسات الأمركة التي تريد إخضاع محاور الممانعة، أو المراوغة، أو طلب الالتحاق بالأمركة بأسعار وظيفية أعلى. لكن الوباء الذي أخذ الجميع إلى عولمته، لم يعبأ بصياح المختلفين على الأسباب والشرح والتفسير، ووضع العالم مجتمعاً أمام مسؤولية العولمة الصحيحة، بأبعادها الأخلاقية الإنسانية، أي بكل ما يتعلق بالكائن الإنساني، وبشروط استمرار حياته المعيشة كحياة أولاً، وبعيداً من النقاش في الشروط الإنسانية والأخلاقية التي تجعل الحياة اسماً على مسمّى، أي حياة فيها كل معاني الحياة.

في مضمار الإنسانية وأخلاقها، أسقط كورونا أخلاقية العولمة، وكشف ادعاءاتها. الدليل على ذلك، انكفاء كل دولة وطنية على ذاتها، وتحديد الصلة بين المتشابهين على صعيد نظامي رأسمالي، والتمييز ضمن المجموعة الرأسمالية ذاتها، على أساس لا تخطئ العين مقدار السياسة الكامنة فيه. تفصيلاً، الأمركة التي كانت دمقرطة بالاجتياح عند انطلاقها، لم تكن أمينة لإعلاناتها الأخلاقية الإنسانية مع شركائها الأوروبيين، وأوروبا الاقتصادية لم تكن على قدر مسعى "وحدة القارة" في موقفها من إيطاليا مثلاً. هذا ضمن المركز الرأسمالي الذي يقوده المركز الأميركي، لذلك لا حاجة للقول إن افتراق أهل "البيت الواحد" صحياً، سيكون سياسة قلة انتباه حيال الصين، وسياسة قلة اكتراث حيال آسيا، ومن ضمنها لبنان، الذي يملأ الكون ضجيجاً "بكونيته"، ولا يكلّ من إعلان صفته "الرسالية" التي تشكل حاجة أممية، ثم يكتشف فجأة، أو تكتشف نخبته الرومانسية المؤسطرة، أن أدلجة التاريخ ليست مرهماً عالمياً، في مختبر أمراض التاريخ.

إذن، وفي مناسبة العولمة الكورونية، استدارت السياسات الوطنية إلى الخلف، وهذه المرّة بوضوح، أي أن الوطنيات المعولمة، والداعية إلى هدم الحواجز، عادت لتؤكد، أن المقصود كان ما قرأه الآخرون في العولمة، حيث يأتي الإنسان في أدنى درجات سلم اهتمام العولمة الاقتصادية.

الدولة الوطنية
بمقدار ما رفع وباء كورونا الستار عن جوانب مستترة في عملية العولمة، أعاد الدولة إلى مسؤولية الدولة الوطنية عن مواطنيها، وعن اختيار الأنسب من السياسات التي تقود فعلاً إلى الاستفادة من العولمة، سياسات تجمع بين ضرورة الاتصال والتفاعل مع التحولات العالمية، وبين التدرج في الانتساب إلى العالم انتساباً جديداً، وفق مرجعية المصالح الوطنية العامة، التي يكون فيها الفرد أولوية، والمجتمع فيها أولوية، وانطلاقاً من هاتين الأولويتين، وعلى أساسهما تقارب كل السياسات الوطنية الأخرى. هكذا نظرة تخالف الآخرين الذين يدعون إلى معالجة الحاضر بالماضي، وتختلف مع الذين ينادون بإقفال الحدود وبالاعتماد على سدود مادتها الأيديولوجيا والحنين إلى ماضٍ لا يستعاد. إذن، وكخلاصة، تعود المسؤولية عن الشعب إلى من يفترض أنهم منتخبون من أجل رعاية شؤونه، هنا نظرياً، لكن عملانياً، تختلف التجربة، ويشاهد الجمع على شاشة الاختلاف، معنى أن تكون صينياً في دولة وطنية، ومعنى أن تكون عربياً في دولة شبه وطنية، وفي لبنان مثلاً، حيث الدولة مشروعاً لا يعرف طريقه إلى النجاح والإنجاز.

كورونا اللبنانية
لا تقتصر هموم اللبنانيين على مواجهة كورونا الصحية، فهم غارقون أيضاً في سلسلة مواجهات مع كورونات سياسية وطائفية ومذهبية، وهم منقادون، بالقهر والتسلط، بكورونات مؤسسات دينية ودنيوية، تملأ فضاءهم بخزعبلات "غيبية" محروسة بقوى تستفيد من الخزعبلات، وترعى ترويجها، وفي الأثناء، يُظهر العدد الأوسع من اللبنانيين أنهم على شاكلة نظامهم السياسي، من حيث قلة الكفاءة في تقدير المخاطر الناجمة عن كل كورونا، ومن حيث قلة الالتزام بالتدابير التي تحدّ من المخاطر المحيطة بحياتهم. في هذا المجال، يبدو طيف واسع من اللبنانيين أنه مصاب بعدوى الإنشائية، وبفيروس "المظهراتية"، ولديه ما يكفي من المناعة لرفض "المنطق" الجمعي إذا لم يكن على قياس منطقه الخاص، حتى لو كان الأمر أمر ضرورة توحيد المنطق في التصرف حيال منطق كورونا العام.

وبعد، ماذا ينتظر اللبنانيون الكونيون؟ لا يظهر العالم اهتماماً بعولمة من طراز لبناني. وماذا ينتظر اللبنانيون من "دولتهم" الوطنية: أن تستمر في قولها كدولة، وأن لا ترقى بفعلها إلى مصاف الدولة.. وعسى تنجلي "الغُمّة عن هذه الأمّة".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024