عام على "تشرين": كانت معجزة لم نصدقها

طارق أبي سمرا

السبت 2020/10/17
يبدو أنّ انتفاضة 17 تشرين باتت لها ذكرى سنويّة. ويبدو أنّها أضحت الآن، بعد عامٍ واحد مِن اندلاعها، شيئاً من الماضي نستذكِره بحسرةٍ ونُعيد تقييمه بعينٍ نقديّة. ويبدو أنّه أصبح علينا أن نَحنَّ إليها، ونُذعِن لهذا التمرين الكتابيّ الرتيب الذي قد يستحيل طقساً سنويّاً؛ تمرين ينطوي في جوهره على تحنيط انتفاضة 17 تشرين، أي إقحامها في رتابةِ، لا بل في قحطِ الحياة السياسيّة اللبنانيّة. وذلك بتعيين أسبابها المباشرة وغير المباشرة، وتحديد نتائجها ومآلاتها، وتعداد إنجازاتها وإخفاقاتها، وصولاً أخيراً إلى إصدار حُكْمٍ عليها يُلخِّص حقيقتها: إمّا نجاحها وإمّا فشلها. وأغلب الظّن أنّ مَحْكَمة العقل هذه ستقول إنّ الانتفاضة فشلت، وتفتي بضرورة البحث عن أسباب هذا الفشل، وبوجوب التعمّق في دراستها.

أصبح علينا، إذاً، إحالة الانتفاضة إلى ذكرى ميتة، نُدخلها في تسلسل زمنيّ أملس لا نتوء فيه، فنسجنها في سلسلةٍ سببيّةٍ مُحكَمةِ الإغلاق. سلسلة تُمكِّننا مِن تفسير ما حصل في 17 تشرين الأول مِن العام الماضي تفسيراً تامّاً، مُستندين في ذلك إلى العلوم الاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة، والتاريخيّة.
ويبدو أنّه أصبح علينا استخلاص الدروس.
***

أعتقِدُ أنّ الانتفاضة انتهت في اليوم الذي نالت فيه الثقةَ حكومةُ حسّان دياب. واعتقادي هذا ينبع بصورة خاصة مِن شيء تافهٍ هو شعوري.

ففي ذلك اليوم الذي قَطَع فيه المحتجّون الطرق المؤدّية إلى مقرّ البرلمان، في محاولة منهم لمنع انعقاد جلسة الثقة، كنتُ هناك واقفاً على رصيفٍ يحاذي أحد تلك الطُرق المقطوعة. وما أن كنت أغادر الرصيف متّجهاً نحو منتصف الطريق المقطوع، حتّى أعود أدراجي سريعاً؛ فكان وقوفي هناك، على ذلك الرصيف، مُتردِّداً، مَوْتوراً وخائفاً، يُحيلني إلى مُتفرِّج تقريباً.

كان عدد المحتجّين أقلّ من المتوقّع – أو ربّما أقلّ ممّا توقّعتُ أنا فقط. وكان ثمّة شعور يطغى على المكان، يُغلِّفه: شعور كئيب، جنائزيّ، لست أدري إن كان ينبعث مِن أغلب مَن كانوا حولي، أم منّي أنا فحسب. كان شعوراً بالعجز. وأظنّ أنّ معظم المحتجّين كانوا يدركون مُسبقاً، ولو على نحوٍ غائم فقط، أنّ نصاب الجلسة النيابيّة سيكتمل، وأنّ حكومة حسّان دياب، هذا النرجسيّ النّكرة، ستنال الثقة.

لماذا إذاً – إن كان ظنّي صائباً – يقطعون الطرق؟ مِن أين يستخرجون إصرارهم العنيد على الجلوس أرضاً لمنع مغاوير الجيش ومركباتهم المدرّعة مِن فتح الطريق؟ وإن كانوا بالفعل يحدسون أنّ ما يقومون به سيذهب هباءً، فمِن أين يأتون بالقوّة التي تتيح لهم الثبات في مكانهم حين تتساقط بينهم القنابل المسيّلة للدموع، وفيما أكثرهم بلا أقنعة تقيهم من الغاز؟

لعلّهم كانوا يحدسون أيضاً أنّ الانتفاضة باتت في ساعاتها الأخيرة، فكانوا يريدون إنكار ذلك – أقلّه هذا ما أرغبُ في تخيِّله الآن. لعلّهم أرادوا الاحتفاء بهذه النهاية بجعلها مماثلةً لما سبقها، لكنّهم لم ينجحوا في ذلك تماماً، فانبعث ذلك الشعور الجنائزيّ الكئيب وغلَّف المكان.

لقد بدوا لي – أو هكذا أتخيَّلُهم الآن – كأنّهم يُعيدون تمثيلَ شيءٍ فعلوه مِن قبل. يهتفون كما هتفوا مِن قبل. يجرّون بسلاسل حديدٍ حواجزَ إسمنتية إلى منتصف الطريق، كما جرّوا حواجز إسمنتية مِن قبل. يركلون قنابلَ مُسيِّلة للدموع سقطت بينهم، كما ركلوا غيرها مِن قبل. يرمون حجارة رموها مِن قبل. يتعرّضون لضربٍ تعرضوا له مِن قبل.

كانت أفعالهم تكراراً لأفعال ماضية. لكنّ التكرار هذا لم يكن يخلق رتابةً. وذلك لأنّه لم يكن اجتراراً لما سبقه، وإنّما على العكس تكثيفاً له، تكثيفاً لأفعال ماضية، نَحْتاً لها يُزيل عنها كلّ ما هو زائد عن اللزوم، مُبقياً على الجوهر فحسب.

لذا، بدت لي أفعالُهم المُكرَّرة – إعادةُ تمثيلِ الماضي هذه – شيئاً مجّانيّاً لا هدف له خارج ذاته. ومع أنّ عناصر الجيش ومكافحة الشغب كانوا أشرسَ مِن المُعتاد، فقد تراءَت لي أفعالُ المحتجّين مُنفصلةً عن سياقها، كأنّها استحضار لشيءٍ اندثَر صار ينبغي وداعُه. كأنّ المشهد أمامي جنازة لا يريد أحدٌ الإقرارَ – ولا حتّى أنا يومذاك – بأنها جنازة.

وبعدما رشق المحتجّون بالبيض والحجارة سيارةَ أحدِ النوّاب مُحطِّمين زجاجها (لم أعلم إلّا لاحقاً أنّ ذلك النائب هو سليم سعادة)، احتدمت المواجهةُ بينهم وبين القوى الأمنيّة، فأخذْتُ أبتعد. رحت أمشي مُسرعاً، ملتفتاً إلى الخلف بين حينٍ وآخر. وعندما أصبحت على مسافة ما، توقَّفتُ لألقي نظرة أخيرة. أتذكَّرُ الدخان الكثيف، الصراخ، بضعة أحجار مُحلّقة في الهواء، وثلاث قنابل مسيّلة للدموع كأنّما تسقط من السماء. أتذكَّرُ المحتجّين وعناصر القوى الأمنية يركضون ركضاً بدا لي عشوائيّاً. لكنّني لا أتذكَّرُ شيئاً ممّا شعرت به في تلك اللحظة. ثمّ غادرْت. غادرت الانتفاضة قبل ساعة مِن نهايتها. أو ربّما قبل ساعتَين.
***

الأرجح أنّ تحديدي نهاية الانتفاضة بذاك اليوم الذي نالت فيه حكومة حسّان دياب الثقة، مجرّد خيال؛ وأنّ كثيراً ممّا سردْتُه عن ذاك اليوم هو أيضاً خيال.

كنتُ أستطيع بسهولةٍ تعيين النهاية بحدث آخَر: تكليف حسّان دياب بتشكيل حكومة جديدة؛ بدء التعبئةِ العامّة والحجرِ المنزليّ نتيجة وباء كورونا؛ انفجار مرفأ بيروت في 4 آب؛ مظاهرة 8 آب التي شُنِقَت فيها صوَر الزعماء اللبنانيّين. كان اختياري يومَ انعقاد جلسة الثقة اعتباطيّاً إلى حدٍّ ما إذاً.

أعلمُ أنّ الانتفاضة انتهت، لكنّني لست أدري متى بالضبط. أعلم أنّها انتهت لكنّني لستُ مُصدِّقاً ذلك تماماً. أو الأحرى أنّني أجد صعوبةً في تصديق ذلك. لأنّني لا أريد أنّ أصدِّق. لذا، ومع أنّني أعلم أنّها انتهت، أجدني دوماً مترقِّباً عودتها. كأنّها، بغية تجديد قواها، دخلت في سبات لا بدّ ستصحو منه. كأنّها المسيح الذي سيقوم بعد صلبه. كأنها المهدي الذي سيظهر بعد غيبة طويلة.

لا أعتقد أنني الوحيد الذي ربطَتْه بالانتفاضة علاقةٌ شبه دينيّة أو غيبيّة. أظنّ أنّ كثيرين شعروا مثلي، بعد بضعة أيّام فقط على بدء الانتفاضة، بأنّ الخلاص صار ناجزاً. شعروا بذلك وأنكروه في آنٍ واحد، لأنّهم يعلمون أنّ المعجزات لا تحصل في هذه الدنيا.

كان شعوراً مؤلماً بالنشوة. نشوةُ ذوبان الأفراد في كائنٍ حيٍّ يتخطّاهم. كائن عملاق لا أحد يعلم مِن أين أتى. كأنّما انبثق مِن العدم. نشوةُ القتل أيضاً. كأنّ مَن انتفضنا عليهم استحالوا فوراً أمواتاً ينتمون إلى أزمنةِ ما قبل التاريخ. ونشوة النصر. ذلك النصر الذي وهبنا إياه إلهٌ جديدٌ كنّا نُقيم يوميّاً طقوساً وشعائرَ وثنيّة احتفاءً بولادته. كانت الحشود تُهلوِس مُبصرةً أرض الميعاد على مبعدة خطوات قليلة.

وكان الذهول. وعدم القدرة على التصديق. كأنّما السؤال نفسه يلمع في عيون الجميع معاً: أترى ما أراه؟ هل يحدث هذا حقّاً؟ كان تصديق ذلك مؤلماً، لأننّا كنّا قد اعتدنا التهكّمَ واللامبالاة، ولا نرغب في التخلّي عنهما مقابل وهمٍ، خصوصاً نحن، أبناء الطبقات المتوسطة والميسورة، الذين كنّا نشعر آنذاك، على الأرجح خطأً، بأنّ الانهيار الوشيك لن يطيحَ بنا. كان لدينا ترف عدم تصديق ما يحصل، فصدَّقنا ولم نُصدِّق في الآن عينه. أمّا أولئك المنتمون إلى الطبقات الشعبيّة، الذين تكلّمنا عنهم وباسمهم مراراً، وبُذِل جهدٌ مهول، أقلّه في بيروت، لمحو آثار ثقافتهم الشعبيّة من الساحات، أولئك الذين وُصِموا بأنهم أنصار زعماء الطوائف، وبأنّهم الشعب الغبيّ، والذين أَعْتَقِدُ أنّ حاجتهم إلى ثورةٍ كانت أمسّ من حاجتنا إليها نحن... أمّا أولئك، فلن أدّعي معرفةً بما صدَّقوا أو لم يصدِّقوا، ولن أحاول، هنا، الكلام عنهم. لقد نُبِذوا مِن الخطاب الذي هَيمَن على الانتفاضة، خطاب الإصلاح التكنوقراطي الذي لعب دوراً كبيراً في الإتيان بحسان دياب رئيساً للحكومة. لقد نُبِذوا مِن ذلك الخطاب الفضفاض الخاوي، والذي ادّعى تمثيلهم. لذلك، سوف أتركهم وشأنهم.

وفي الأثناء، بينما كنّا ننتشي بحدوث معجزة لا نُصدِّق حدوثها، كان طيفُ حسن نصر الله جاثماً بعباءته على الساحات؛ وكنّا كُثراً نحن الذين رفضْنا رؤيته.
***

مِن هنا، مِن زمن ما بعد الانفجار، تبدو لي الانتفاضةُ أحياناً حلمَ يقظة تتبدَّد ملامحه شيئاً فشيئاً. لستُ مُصدِّقاً أنّها انتهت، ومع ذلك أخشى اليومَ الذي لن أعود فيه مصدِّقاً أنّها حصلت: هذه حالةٌ نموذجيّة مِن الحِداد غير المُكتمِل. حِداد طال كثيراً، ويَصْعُب تعيين لحظة بدايته. طال كثيراً، مع أنّ الانتفاضة اندلعت قبل سنة واحدة فقط.

ويا لها مِن سنة عجيبة! فهي لم تكتفِ بتدمير جزءٍ مِن عاصمةٍ، وهدْمِ مُجتمعٍ وإهلاكِ اقتصاده، ومَحْقِ حيواتٍ كثيرة، وإنّما فَتَّتت الزمنَ وبعثرته. ما عشتُه قبل ثلاث سنوات أو أربع صار يتراءى لي أحدَث مِن معظم ما حصل، مثلاً، خلال الفترة الممتدّة مِن نيل حكومة دياب الثقة إلى انفجار المرفأ في الرابع مِن آب. أمّا لحظة الانفجار والأيّام الأربعة أو الخمسة التي تلته، فأشعر أنّها أقرب إليّ ممّا فعلْتُه قبل شهر أو حتّى قبل أسبوعَين.

حاضراً ومُستقبلاً، لا شيء سوى الرتابة والتفاهة فيما ننزلق رويداً رويداً – أو بسرعة مُدوِّخة – نحو الأسوأ. رتابةٌ قد تكسُرُها لحينٍ فواجعُ أو جرائمُ مِن قبيل ما حدث في الرابع من آب. رتابةٌ تُحيل صورةَ الزمن الآتي زنزانةً تضيق أكثر فأكثر. تفاهةٌ تُسطِّح المآسي، مُفرِغةً إيّاها من أيّ معنى. تفاهةٌ لزجةٌ كالبلغم، يبصقها السياسيون يوميّاً في وجوهنا مِن وراء شاشات التلفزيون. تفاهةٌ مُقزِّرةٌ يسقط فيها كلُّ شيء، كلُّ كلام، كلماتي هذه التي أكتُبها، كلماتي التي أصابتني تفاهتُها بالغثيان أكثر مِن مرّة وأنا أكتبها. بالغثيان حرفيّاً.

تَعِبْت. أرهقني هذا التمرين الكتابي العبثي. جعل خمسةً مِن أيّامي محض قَلَقٍ وقرف. قَلَقٌ كان أحياناً على شفير التحوِّل إلى نوبات هلع. وقرفٌ مِن نفسي وأفكاري وجملي. تَعِبْت. أُريدُ أنّ أسْكَرَ هذه الليلة، مع أنّني أقلعت عن شرب الكحول. ولا أريد الكتابة غداً. ولا بعد غد. لعلّ الأجدى أن تبقى المقالةُ هذه مبتورةً مثل حيواتنا التي بُتِرَت. لقد قرفْتُ مِن نفسي مُتكلِّماً عن الانتفاضة. ساعياً إلى استذكارها. محاولاً استخلاص شيءٍ لا أدري ما هو. تَعِبْت. لكن ثمّة شيءٌ أنا على يقين منه. شيءٌ واحدٌ. شيءٌ ترفض مشاعري الإقرار به – لأنّها تافهة – فيما عقلي مُتأكِّد منه. وهو أنّنا نجهل المُستقبل، وأنّ انتفاضة 17 تشرين كانت تُعْتَبَر مُستحيلةً قبل اندلاعها، وأنّ اندلاع انتفاضة أخرى ليس بالمستحيل. وهذا لا يعني أنّ علينا تبديد حيواتنا في انتظار مُعجِزة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024