أي خطر يهدد الجامعة الأميركية في بيروت

يوسف بزي

الخميس 2020/05/14

في كل مرة أدخل إلى حرم الجامعة الأميركية، أتخيل تجربة أي طالب جديد يخرج من كنف أسرته وقريته وطائفته وجنسيته، ويدخل للمرة الأولى إلى هذا العالم الجديد، بما فيه من "مغامرة" ستصنع كينونته الفردية وهويته المركبة والهجينة. هذا بالطبع يشترط على الداخل إلى الجامعة إقبالاً منه على ما تمنحه إياه من تجربة وعيش وأفكار واختلاط.

وحسب سيرة الجامعة هذه، فإن خريجها الذين باتوا موزعين في جهات الأرض، وهم على الأغلب يتبوأون مكانة معتبرة في اختصاصاتهم ومهنهم، اكتسبوا منها تلك الأرجحية الثقافية والمعرفية، لا بفضل نوعية التعليم فقط، بل أيضاً بفضل هذا الفضاء الثري بالتنوع والرحابة والانفتاح على العالم والعصر وعلى القيم الإيجابية والإنسانية.

في السنوات الأخيرة، احتلت "الجامعة الأميركية في بيروت" حيزاً واسعاً في سجالات الشأن العام: دورها وهويتها وإدارتها كلها ما عادت شأناً محصوراً داخل حرمها. بدت الجامعة وكأنها عنوان يخص مسار البلد، وكأنها "قضية" تتصل بمصير لبنان ووجهته.

وكانت الجامعة ابتداء من العام 2016، ومع الذكرى 150 لتأسيسها، أطلقت مبادرة تفاعلية مع محيطها الاجتماعي والعمراني والبيئي والثقافي، مستحضرة في الوقت ذاته سيرة أجيال وأسماء كان لها الأثر النوعي في لبنان والعالم العربي والعالم الأوسع. تلك المبادرة كانت إيذاناً بإيقاظ بعض الطموحات القديمة والأساسية التي تنكبتها الجامعة على امتداد عقود طويلة.

في المقابل، كانت التحولات الرديئة في السياسة والاقتصاد تجرّ لبنان والدول المجاورة إلى حال من الانحطاط والشرذمة والتعصب والعنف. وكانت الجامعة بما تمثله من تجربة تاريخية تشجع على قيم العلم والانفتاح والتنوع، وبما تحمله من أخلاقيات ليبرالية وانحياز إلى الديموقراطية بنموذجها الأميركي، تواجه واقعاً نقيضاً لما "تبشّر" به. وخلال السنوات الأربع المنصرمة، ازدادت الإيحاءات المتعمدة والممنهجة التي تهدد الجامعة بتكرار ما أصابها في منتصف الثمانينات، حين عوملت بعنف الخطف والتهديد والتفجير على يد منظمات إرهابية، معروفة المنشأ والهدف و"الأيديولوجيا". وجاء ذلك في سياق مشروع سياسي يثبت هيمنة فئوية على لبنان.

المناخ الاستفزازي والمعادي والتهديدي، للمفارقة، أظهر الأهمية الحيوية للجامعة ومدى تأثيرها وفاعلية حضورها إلى حد اعتبارها مؤسسة "خطرة" تستحق الاستهداف، إما للهيمنة عليها (وفق نموذج "الجامعة اللبنانية" في مجمع الحدث، مثلاً)، وإما لتحجيم حضورها ودورها وانطوائها خلف أسوارها الأكاديمية، خافتة الصوت، تمنح الشهادات ولا تمنح تجربة حياة وثقافة، ولا تمارس دوراً في المجتمع، واستطراداً في السياسة وفكرها.

التنازل المطلوب من الجامعة، هو أن تتخلى تقريباً عن هويتها، وأن تخسر مثلاً قدرتها على خلق بوتقة من طلاب متعددي الجنسيات، وتخسر جاذبيتها كفضاء محفز على الحريات الفردية والعامة، لتنعزل عن المدينة وكأنها ناد خاص.

وهذا على عكس الميل الظاهر لدى الجامعة إلى التفاعل مع حال لبنان والمنطقة، خصوصاً مع تجدد الحيوية الطلابية فيها وانتعاش دوائر النقاش السائدة في قاعاتها، وحتى خارج أسوارها. وقد توضح الأمر أكثر في لحظة انتفاضة تشرين 2019، لتتأكد مفاعيل حضور الجامعتين العريقتين، الأميركية واليسوعية، في صوغ مزاج عام وخطاب سياسي مغاير، وفي إبراز ذاك الطموح المشروع نحو لبنان أفضل أو لمشرق عربي أفضل.

الاصطدام بالواقع السيء، توّجته الكارثة الاقتصادية، مرفقة بالانتكاسات السياسية التي تبث اليأس من أي إصلاح وتؤجل أي مستقبل مختلف. هذا ما أوقع الجامعة الأميركية في قلق عبرت عنه الرسالة التي نشرها رئيسها فضلو خوري، في 5 أيار الحالي، محذراً من "إجراءات مؤلمة"، مالية وإدارية، قد تضعف قدرة الجامعة على "أداء رسالتها".

يوم الأربعاء 13 أيار، كانت الدعوة من الجامعة لمجموعة من الكتّاب الصحافيين للقاء رئيسها وبعض العمداء والأساتذة، في جلسة بالهواء الطلق، للتداول ببعض الهموم وبالحقائق (وبعض الأرقام). ومن الواضح أن "الأزمة" لا تتعلق برواتب أو بميزانية ولا بديمومة التعليم. المشكلة أكثر تعقيداً: كيف نحافظ على هذا المزيج الطلابي، من أبناء الطبقة الوسطى كما من نسبة أبناء الطبقات الأدنى، الذين يستفيدون من المنح ومن التقديمات والمساعدات التي تمنحهم فرصة التعليم النوعي والارتقاء. ومن ناحية أخرى، الحفاظ على قدرة الجامعة (والمدينة نفسها) على جذب الطلاب غير اللبنانيين (وهذا عامل جوهري في تكوين الحياة المميزة للجامعة). كذلك المشكلة التي تلوح في الأفق، وهي قدرة الجامعة على إبقاء نخبة الأساتذة فيها فلا تخسرهم. والأهم، أن لا تنزلق بيروت أكثر نحو العزلة والانغلاق بما يخنق الجامعة ويميت تلك الروح التي جعلت رأس بيروت المكان الأكثر رحابة في المشرق العربي وأبعد.

الجامعة الأميركية اليوم لا تطرح قلقها الخاص، بل تكشف لنا الخطر الذي يهدد الرأسمال الأخير لذاك الـ"لبنان" الذي يتحول سراباً يوماً بعد يوم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024