لماذا العقوبات "جذّابة" هذه المرة؟

يوسف بزي

الأربعاء 2020/09/09

مشكلة إن تبنينا علناً أو أظهرنا أي تأييد لقرار العقوبات الأميركية الأخيرة التي طالت الوزيرين السابقين يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل. فهذا، على الأقل، مُحرج "وطنياً". وقد يلامس تهمة العمالة أو العداء لـ"المقاومة"، التي هي في أيديولوجيا الدولة اللبنانية ضلع من مثلث "المعادلة الذهبية" الحاكمة.

وتحاشياً للوقوع في خانة الانحياز للامبريالية الأميركية والتآمر والتحريض على "المقاومة"، غالباً ما نكتم رأينا بهكذا عقوبات، طالما أن هذا الرأي أكان شجباً أو تهليلاً.. لا يقدم ولا يؤخر. ثم أننا في مكان ما، قد نستاء قليلاً من العقوبات لما تجلبه من ضرر عمومي كما حدث مع المصارف اللبنانية، أو لا نبالي مطلقاً طالما أن المُعاقَب "يفتخر" بعقوبته، ويرفعها وساماً على صدره.

ليس المهم هنا، عند الكثير من اللبنانيين، السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة تجاه حزب الله. فالأخير اختار طوعاً وإيماناً محاربة الشيطان الأكبر. وهذا الأخير يبادل الحزب العداوة إياها. فيما أولئك اللبنانيين الكثيرين لا يجدون أنفسهم أعداء كارهين لأميركا، حتى ولو لم تعجبهم الكثير من السياسات الأميركية. ثم أنهم في الوقت نفسه ليسوا على استعداد لاستفزاز حزب الله أو إشهار عدائهم التام له، لما قد يجلبه ذلك من احتراب داخلي يجهدون لأكثر من 15 عاماً في تجنبه.

والمريح نسبياً في المسألة، أننا لسنا مضطرين لإبداء أي رد فعل حين تُعاقب أميركا عضواً في حزب الله متهم بتجارة المخدرات في أميركا اللاتينية، أو رجل أعمال مقرب من الحزب بتهمة تبييض الأموال في مصرف أفريقي. فالحزب نفسه يريحنا من هذا العناء حين ينفي أي صلة له بالمخدرات أو تبييض الأموال. أما الأشخاص المعنيون بالعقوبات نفسها، فليسوا ممثلين للشعب اللبناني ولا للدولة وأجهزتها. وعليهم وحدهم تبعات القرار ورد التهم.

أكثر من ذلك، يمكننا حتى الاقتناع أن التهم المشينة التي تأتي في حيثيات العقوبات إنما هي كيدية سياسية، تجعلنا غير متحمسين للقرار الأميركي ونتجاهله، ونترك للحزب مهمة التصدي له.

وعندما طالت العقوبات نواباً من الحزب منتخبين من جمهور لبناني واسع. أي بمعنى آخر، مست البرلمان اللبناني الذي هو مجلس الأمة وممثلها، أراحنا حزب الله وأمينه العام من أي خوف أو قلق. فهما أعلنا مراراً أن لا تأثير لها عليهما. بل طالبا أميركا بتحييد لبنان واللبنانيين عنها وتجنيبهم تداعياتها، وأنهما يتلقيان العقوبات بصدر رحب وبكل إباء وشجاعة ولا اكتراث.

لكن فيما بعد، بدا أن صدر حزب الله الواسع ليس كافياً لحماية البلد وأهله. وتوضحت لنا سيئات تلك العقوبات بفعاليتها السياسية والاقتصادية. فبسببها تحولت السياسة الدولية والعربية تجاه لبنان إلى القطيعة والعزلة والحصار.. بل والمعاقبة الجماعية. وهي سياسة سرّعت كثيراً في الانهيار المالي وفي تهافت الدولة وسقوطها المدوي.

ورغم ذلك، لم تكن النقمة على حزب الله بالقدر المخيف، ولا على أميركا بالقدر الكافي. حدث نوع من التسليم والانحناء لـ"صراع الجبابرة". فنحن على أي حال لسنا مؤهلين لا بالحاضر ولا بالمستقبل القريب لردع أميركا أو لترويض حزب الله.

مع ذلك، حدث أمس تبدل مهم في المزاج اللبناني إزاء قرار العقوبات التي أعلنتها وزارة الخزانة الأميركية مستهدفة يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل. والأكيد، لم يهتم اللبنانيون بتلك التهم من نوع التحالف مع حزب الله أو مساعدته أو تمكينه أو تقديم الخدمات له.. بقدر ما اهتموا بتلك الأسطر القليلة التي بثتها وزارة الخزانة الأميركية بذكاء واقتضاب في طيات قرارها، التي تدل على "الفساد" على مختلف وجوهه من الرشى والخوة والصفقات المالية المشبوهة إلى التنفيعات عبر التلزيمات والمقاولات واستغلال النفوذ.

أتت تلك الأسطر لتقول ما يتداوله اللبنانيون يومياً منذ سنوات طويلة عن فساد رجال الدولة والوزراء والزعماء وقادة الأحزاب والمدراء العامين وكل من يعمل في السياسة أو الإدارة العامة.

ورغم صدور هذه الاتهامات عن "الشيطان الأكبر"، فهي لم تكن مستهجنة أو مستنكرة كثيراً، بل وقابلة للتصديق فوراً لكونها تتشابه جداً إلى حد التطابق مع ما يعرفه اللبنانيون ويشمّونه ويرونه ويسمعونه ويلمسونه يومياً. لذا، كان وقع القرار وحيثياته مختلفاً جداً عن القرارات المشابهة السابقة.

ففي بلد من الصعب تعداد الاقترافات فيه، إن في القتل والاغتيال أو السطو أو الاختلاس أو الصفقات الفاسدة أو التعدي أو انتهاك حقوق الناس أو تدمير الدولة والبيئة أو الإهمال وسوء الإدارة أو التحريض المذهبي والطائفي أو التسبب بالفتن والترويع والإرهاب أو الكذب اليومي على المواطنين أو التفريط بالمصلحة العامة أو نهب خيرات البلد أو التسبب بإفقار الملايين والبؤس وإفلاس خزينة الدولة وتفجير نصف العاصمة، إلخ مما لا تعداد ولا حصر لتلك الجرائم المروعة والموغلة بأذاها، وعلى امتداد عقدين على الأقل.. ومع ذلك، لا محاسبة ولا مساءلة ولا عقاب ولو لمرة واحدة. لذا، فتلك الأسطر اللعينة التي ذكرتها وزارة الخزانة الأميركية مشفوعة بقرار المعاقبة، لها جاذبية لا تُقاوم عند جمهور لبناني عريض.

هذا التحول في "حيثيات" العقوبات الأميركية، يمنحها لأول مرة شعبية لبنانية. يمنحها تأييداً من رأي عام يئس من التظاهرات اللامجدية، إلى حد أنه قد يقتنع بالتحالف حتى مع "الشيطان" للتخلص من هذه المنظومة البائسة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024