مسلّة حافظ الأسد.. تمثال قاسم سليماني

يوسف بزي

الأربعاء 2021/01/06

كان مسلحو أحزاب "الحركة الوطنية" ومقاتلو "منظمة التحرير الفلسطينية"، ومن بعدهم "حركة أمل"، يعمدون حال استيلائهم على شارع أو زاروب إلى رشّ جدرانه بالدهان الرذاذي (سبراي)، باسم أحد شهدائهم: شارع الشهيد فلان الفلاني.

ومع الوقت، صار هذا "التكتيك" يدل على خريطة نفوذ هذه الميليشيا أو تلك. فيمكن لواحدنا أن يعرف أنه انتقل من حيز لـ"المرابطون" إلى حيز لـ"القومي السوري" بمجرد الانتباه إلى ملصقات صور "الشهداء" أو الشعارات التي تلوّث الجدران.

منذ التسعينات، وقد توقفت قافلة الشهداء، عمدت بقايا تلك الأحزاب والأخرى الوليدة إلى "تكتيك" الرايات، توزعها وترفعها وتعلقها داخل منطقة نفوذها (الشعبي والأهلي والانتخابي) وعند تخومها. وهذا التقليد مستمر حتى اليوم.

في التسعينات أيضاً، وقد تبدلت العقيدة السياسية للدولة، طمعت جماعات اليسار والممانعة بالارتقاء بفنها الرفيع هذا إلى مستوى رسمي، وراحت تطالب بإزالة أسماء الشوارع والساحات الأجنبية التي لا تتسق مع "عروبة لبنان"، واستبدالها بأسماء ثورية وعروبية وإسلامية. وبقليل من التسوية والتدبير الوقور صار شارع فردان مثلاً معمّداً باسم الرئيس الراحل رشيد كرامي. كما أن جادة الفرنسيين (عين المريسة) احتوت النصب التذكاري لجمال عبد الناصر رسمياً. وفي طرابلس حيث كانت حركة التوحيد الإسلامية قد فرضت اسم "ساحة الله" على ساحة عبد الحميد كرامي، كانت التسوية بإطلاق اسم ساحة النور شعبياً، والإبقاء على اسمها الأصلي رسمياً، كذلك الحفاظ على منحوتة اسم "الله" منصوبة وسط الساحة. وعلى هذه الأمثلة كانت تحولات أسماء الشوارع والساحات في المدن والبلدات اللبنانية.

المعضلة الفعلية آنذاك كانت في التعامل مع "الوصاية السورية" ونظامها البعثي الشغوف إلى حد الهوس باسم حافظ الأسد وصورته وهيئته الصنمية، وميله المرضي إلى نصب تماثيله أينما حلت سيطرة مفارزه العسكرية والمخابراتية. ويذكر اللبنانيون جيداً صور الأسد في صالات مطار بيروت مثلاً. والنظام السوري الذي لديه خبرة صعبة في حراسة تماثيل الأسد داخل سوريا، كان حذراً في تنصيبها كيفما كان بلبنان، فاكتفى بالقليل منها في البقاع خصوصاً والجنوب اللبناني أيضاً، وكان أشهرها تمثال باسل الأسد على صهوة فرسه في شتورا. وهو لم يشجع المتملّقين اللبنانيين على الإكثار منها، خوفاً من تعرضها للتشويه أو التحطيم وتحولها إلى أهداف للإساءة أو التلطيخ، فعمد المتملقون إلى إطلاق تسمية الأسد على مراكز اجتماعية وأندية أو قاعات حزبية في القرى.

وتبدت المعضلة السورية الشديدة الإحراج، حين طُرح مشروع "جادة حافظ الأسد" يتوسط مستديرتها تمثال له، عند منطقة بئر حسن – السفارة الكويتية، في عهد الرئيس رفيق الحريري، الذي وإن رضخ للتسمية، إلا أنه استطاع التحايل على نصب التمثال واستبداله بتعبير تجريدي: مسلّة حافظ الأسد. التي بدت بالنسبة للشطر الأكبر من اللبنانيين "خازوقاً" بشعاً، معبراً عن مهانتهم إزاء السيطرة الأسدية على بلدهم.

في العام 2005، ومع انتهاء الوصاية السورية، وتحطيم تماثيل الأسد وابنه باسل في الجنوب والبقاع، اضطرت المفارز العسكرية والمخابراتية السورية إلى توضيب بعض تلك التماثيل وشحنها مع قوافل الانسحاب.

بعد ذلك، دخل لبنان في طور نفوذ حزب الله، الذي كان يكتفي بترتيب "سينوغرافيته"، أسماءً وجداريات وملصقات ورايات، داخل "بيئته" الأهلية ومربعاته الأمنية، في الضاحية الجنوبية مثلاً، كأن يسمي شوارع "الشورى" و"القائم" و"سيد الشهداء" (على نحو غير رسمي)، ويحتفي بالتسمية الرسمية لأوتوستراد "هادي نصرالله" الذي شقّه وسماه رفيق الحريري شخصياً. وهذا كله كان معتاداً ومتسقاً مع التقليد الذي ابتدعته ميليشيات الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية وحركة أمل..

بعد العام 2006، ابتدع حزب الله أسلوباً أكثر منهجية وتنظيماً وتفنناً. فزرع على نطاق واسع وهائل جميع الطرق من ضاحية بيروت الجنوبية إلى الخط الساحلي، وانتشاراً في كل طرق الجنوب إلى الحدود، صوراً مؤطرة بالمعدن، موحدة الانتاج والقياس والطباعة، لألوف شهدائه، إضافة إلى صور الخميني وعلي خامنئي وحسن نصرالله، وعلى نحو بالغ الترتيب، وإن صعب وصفها بـ"الأنيقة" إلا أنها شديدة الاحتراف والاتقان.

كان ذلك تدشيناً لحقبة سياسية – عسكرية جديدة، تُعلن خروج حزب الله من فضائه الخاص إلى الفضاء العام، خروجاً كاسحاً ومهيمناً ويطمح إلى تسيّد المشهد البصري وتغيير صورة البلاد وهويتها على نحو عميق فائض الأيديولوجية.

النقلة "النوعية" كانت في فرض اسم "جادة الخميني" على طريق المطار: بوابة لبنان إلى العالم. كان ذلك أقوى بكثير من مجرد وضع صورة الأسد الركيكة الورقية على جدران قاعات المطار. كانت تسمية "جادة الخميني" رسمياً إعلاناً سياسياً لموقع لبنان ووجهته.

هذا "الانتصار" الرمزي سرعان ما شجع الحزب وبلدياته على التوسع أكثر، فكانت "جادة الشهيد القائد الحاج عماد مغنية"، ثم مقابل مستشفى رفيق الحريري شارع باسم المشتبه باغتياله، مصطفى بدر الدين. ويضاف هذا طبعاً إلى المجسم الضخم لقاسم سليماني عند خط الحدود الجنوبية، وحديقة إيران في مارون الراس، ومعلم مليتا لـ"السياحة الجهادية".

وطريق المطار الذي "ازدان" بصور عملاقة لقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، بات –تعبيرياً- طريق لبنان إلى مساره ومصيره، وها هو يتجسد على نحو راسخ رسوخ تدشين التمثال المهيب والعابس لقائد فيلق القدس المقتول قاسم سليماني، في الغبيري، هناك متوسطاً عمران الرثاثة ومجتمع قوافل الشهداء المبتدئة عام 1975 وإلى قيام الساعة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024