غادة عون والراهبة هندية: سحر الكاريزما للخلاص الهزلي

محمد أبي سمرا

الأربعاء 2021/04/21
يحمل ما قامت وتقوم به القاضية غادة عون على مقارنة سلوكها بسلوك الراهبة هندية عجيمي (1720-1798)، التي أسّست رهبنة هزّت الكنيسة المارونية ورهبانياتها وبطريركيتها في القرن الثامن عشر. وما يبعث على هذه المقارنة هو تلك الطهرانية الشرسة أو النزقة التي تدّعيها القاضية عون في عملها القضائي، وتتخذ طابعاً مسرحياً مصوراً، في إصرارها إصراراً عنيداً على سلوكها الذي تعتبره إخلاصاً وتفانياً شخصيين وذاتيين في ملاحقتها الدؤوبة قضايا الفساد. وهي في هذا ترى أنها انتُدِبت أو اختيرت لتحمل وحدها سيف الحق والعدل، أو صليبهما في بلد يتآكله بشهادة العالم كله فساد مهول، ضرب ويضرب ويتفشى في أركان دولته ومؤسساته كلها، وبين زعمائه وسياسييه جميعاً، وصولاً إلى الجسم القضائي والمؤسسات القضائية.. طبعاً ما عدا السيد جبران باسيل الذي نذر نفسه لحمل الصلبان، على ما يردد ويقول.

الخلاص المُنْزَل
ومتابع أخبار السيدة غادة عون وأفعالها، ومشاهد فصول جولاتها وصولاتها المصورة، ومعها رهط من أتباعها ومريديها الغاضبين غضبتها، لا بد من أن يتساءل: ماذا يدور في خلد هذه السيدة القاضية، وعلى صورة ومثال مَن تتصور نفسها وأفاعليها؟ ولماذا ومن أين لها أن ترفع صوتها وعقيرتها وسيفها بالحق، لتطارد به، هكذا وحدها، ما تراه وحدها أيضاً صواباً خالصاً لا راد له؟! وهي في هذا تكاد تشبه مخلّصاً يطارد أشباحاً أو شياطين في ظلام دامس يعمُّ في هذه المغارة اللبنانية الموبوءة بفساد وموبقاتٍ مديدة، وهيهات أن يتميَّز أحد فيها ضوءاً أو إشارة تهديانه إلى منفذ فيها.

وقد يكون الضوء الوحيد الذي تبصره القاضية غادة عون -وهو ما يحمل هنا على مقارنتها أو تشبيهها بالراهبة هندية عجيمي- يتجلى في ما يُنسبُ إليها قولها إنها تعتبر كلام الجنرال الرئيس ميشال عون منزلاً، أي مقدساً لديها، ولا تستطيع عدم تلبية نداءاته. ولا بد لمن يتراءى له أن هناك كلاماً منزلاً، أن يعتبر نفسه شخصاً مختاراً ومكلفاً ومنذوراً وحده ليبلّغ رسالة أُوحي إليه بها ليكون منتدَباً ومخلّصاً.

والحق أنها في هذا تضفي على نفسها وشخصها ورسالتها وأعمالها قبساً من نبوءة، غالباً ما تلابس مشاعر النخبة العونية، كلٌ على طريقته وحسب شخصيته وموقعه ودوره في شيعتهم السياسية، التي استجاب مريدوها صرخات رائدها ومؤسسها الجنرال، منذ وصوله سنة 1988 إلى القصر الجمهوري، وإعلانه أنه مخلّص لبنان واللبنانيين من الاحتلالات والفساد. ومنذ ذلك الحين وحتى الساعة، هناك إشارات وعلامات وأقوال كثيرة تنبئ أو تشي بأن الجنرال الرئيس لا يرى في نفسه وأفعاله أقل من مخلّص مرسَل، أو صاحب رسالة اختير لتبليغها وحمْلِ سيفها بغية تنفيذها وتحقيقها. فهو صرخ صرخته الأولى: يا شعب لبنان العظيم، ظاناً أنه هو ما يضفي العظمة على شعبه. ثم قال أخيراً أنه صاحب فلسفة هندية غيريّة، ويدع الأمور تجري على هواها لتأتي من تلقائها إليه، فتختاره وتسْلِمُه زمامها، من دون أن يسعى هو إليها. وهو خرج في إطلالته التلفزيونية الأخيرة على شعبه إياه، القانط اليائس، وخاطبه على منوال صرخته الأولى، قائلاً: أنا ميشال عون، الجنرال، هيا اسمعوني، أنا مخلصكم إياه من ما أنتم فيه اليوم، أذا تبعتموني كما في الأمس في دعوتي إلى التدقيق الجنائي الذي يعيد إليكم أموالكم المنهوبة الضائعة.

وقد تكون القاضية غادة عون، في غاراتها ومطارداتها الأخيرة، استجابت نداء الجنرال الذي تعتبر كلامه منزلاً لا يرد، ووحده يرسم طريق الخلاص.

ما خلونا، ما خلّوا الجنرال
والأرجح أن كثرة من اللبنانيين صاروا يعلمون وخبروا حال الجنرال الرئيس هذه في أقواله وأفعاله كلها. فهو مذ ساقته الأقدار إلى قصر بعبدا الرئاسي سنة 1988 وحتى اليوم، لم يطلق ويفعل شيئاً سوى تلك الوعود الخلاصية التي بيّنت الوقائع كلها أنها مدمِّرة، ولا يتراءى إلا له ولشيعته أنها ليست كذلك. أما إذا ما أُحرِج هو أو سواه من شيعته المتضائلة يوماً بعد يوم، وحوصروا بواقعةٍ (الكهرباء مثلاً) تشير إلى سوء الأحوال ووبالها، فإن لسان حالهم سرعان ما يقول على مثال ما يقول الأطفال: "ما خلونا، ما خلو الجنرال" يمشي بنا على طريق الخلاص التي رسمها لنا ولكم.

والحق أن هذه النبوءة الخلاصية المعلقة في وجدان الجنرال وعونييه، هي إياها التي تحمل في هذا السياق على استعادة سيرة الراهبة هندية عجيمي وأفعالها ورهبنتها التي أسستها وشغلت مجتمع جبل لبنان وكنيسته المارونية وصولاً إلى السدة البابوية في روما في الربع الثالث من القرن الثامن عشر، ومقارنتها بالشيعة العونية ومخلصها وأتباعها، ومنهم القاضية عون التي شغلت صولاتها وجولاتها اللبنانيين في الأيام الاخيرة.

كاريزما هندية
ومن يشاء الاطلاع على سيرة الراهبة هندية عجيمي الشهيرة، ما عليه إلا قراءة كتاب الباحث الفرنسي برنار هيبرجيه "هندية/ الصوفية الآثمة: أزمة دينية وسياسية في جبل لبنان القرن الثامن عشر". وقد نقل الكتاب إلى العربية جان هاشم، ونشرته "دار النهار" سنة 2001. وننقل هنا شذرات من سيرة هندية، حسب هذا المؤلَّف-التحقيق الوثائقي التاريخي.

ففي حوالى سنة 1755 كانت تقيم في محيط المرسلين اليسوعيين فتاة مارونية تدعى هندية، وهي حلبية الأصل والمنبت والولادة وجاءت إلى جبل لبنان من حلب. وبدأت سيرتها الغريبة تسترعي انتباه الناس: تصوم، ترتدي المسوح، وسخية الدمع، وتميزت بكامل مظهر قدامى النساك. ثم سرعان ما ذاع صيتها، ورأى فيها الجميع صورة التقوى، وعدّها كثيرون قديسة،  وإذّاك يسهل الكلام على العجائب. استفادت هندية من الحماسة الخلاصية التي بعثتها في من حولها لتحقق مشروعها. وقد استلزم ذلك بناء دير في بكركي بأموال عملت تقوى أتباعها على جمعها من الحسنات الوفيرة التي تدفقت عليهم. فأمكن في سنوات قليلة تشييد ديرين واسعتين كلّف بناؤهما حوالى 40 الف ريال. وقد ماتت كثرة من الراهبات أتباعها، لكن الأمر عُزي إلى تلوث الهواء، وبدا صعباً التكهن بالأسباب الحقيقة لهذه الوفيات. وبعد مضي 20 سنة على تأسيس هندية رهبنتها "قلب يسوع الأقدس" سنة 1850، انكشف أمر امبراطوريتها: مرّ رجل ليلاً على مقربة من الدير، وانقطعت به السبل، فنام على كومة قش، إلى أن أيقظه صرير أبواب ومزاليج، فإذا بثلاث نسوة يحملن معاول ورفوش، يخرجن من الباب يتبعهن رجلان يحملان حزمة طويلة بيضاء، حفروا لها حفرة وطمروها، وكان ما طمروه جثة طفل ميت.

وكانت هندية تروي أنها منذ طفولتها تبصر المسيح ومريم العذراء يحدّثانها في منامها، ونذرت لهما نفسها. وبعد ما أسّست رهبنتها وبنت لها الدير، ادّعت أنها تتحد بالثالوث المقدس، وتبصر المسيح يحدثها عن صنع المعجزات. وشاع صيتها وصارت تُعتبر قديسة حيّة، يكنُّ لها الناس الاحترام والتبجيل، حتى أمست صاحبة كاريزما دينية واجتماعية شديدة التأثير. وقد دعمها رجال الدين الموارنة، ومنهم البطاركة سمعان عواد وطوبيا الخازن ويوسف إسطفان، قبل أن يستريب منها الأخير، واليسوعيون. وحين أمر البابا بندكت الرابع بالتحقيق في وضعها ورهبنتها، قالت أنها خُلِقت لتكرس حياتها للمسيح الذي أوحى لها بتأسيس الرهبنة. وضمت رهبنتها 37 راهبة ما بين العام 1750 و1775.

أبواب الجحيم
وفي فصل عنوانه "الدير الجحيم" أظهرت الوثائق وشهادات الراهبات الهاربات من الدير، فشل النموذج الخلاصي البديل لأنظمة رهبنة قلب يسوع: تسربت إلى الدير علاقات التضامن العائلي والمحلي والتراتب الاجتماعي. ولم يتحقق من الرهبنة التي أضفيت عليها صورة مثالية خلاصية، سوى فرار عدد من الراهبات من المظالم والتعذيب والسجن الانفرادي في غرف مظلمة، على نحو مبرمج ومنتظم. وظهر أن المثالية الخلاصية ليست سوى كذبةٍ وُظِّفت لخدمة هندية المؤسِّسة وجبروتها وطغيانها الدنيويين.

وقد تفشت الانقسامات والنزاعات بين الراهبات اللواتي تفشى بينهن تعامل وحشي بإيحاءات من هندية ومكائدها. وروت إحدى الهاربات من الدير أن سرّ اتحاد هندية بالثالوث المقدس لم يكن سوى مصدر لسلطة دنيوية استبدادية مارستها على الراهبات، وأنزلت التعذيب بمن لا تطيعها. وشيئاً فشيئاً لم تعد سلطة هندية ترتكز سوى على غضبها والخوف الذي تثيره في أوساط تابعاتها اللواتي كانت تُسمعهن أقذع الشتائم.

وحتى البطريرك يوسف إسطفان، رفض الاستماع للراهبات الهاربات من الدير، بل أنزل بهن صنوفاً من التعذيب. وبينت الشهادات والوثائق أن البطريرك كان متعلقاً بهندية، ويستشيرها في شؤون الطائفة والكنيسة، بواسطة المطران جرمانوس دياب. وكان إسطفان في ذهابٍ وإياب إلى دير هندية في بكركي، وأمضى فيه عشرة أشهر من دون أن يغادره سنة 1770. وعلى الأرجح أنه كان يُعالج من جرح في لسانه. وعندما شفي زعم أن شفاءه من عجائب هندية. وظلت الحياة في الدير على هذه الحال حتى سنة 1775، حينما وصل موفد بابوي إلى بكركي، فانفتحت أبواب الجحيم وأسرارها.

ويختم برنار هيبرجيه بحثه بخلاصة، يكتب في نهايتها أن ما سمح بحدوث الانحرافات في رهبنة قلب يسوع في بكركي هو غياب "سيادة شرعية" قادرة على فرض سلطتها لفضح كاريزما هندية. وما سمح بذلك هو فورية الوقوع في أسر النور الإلهي الخلاصي لشخصية كاريزمية تدّعي النبوة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024