عامان على 17 تشرين: أجيال الأحلام وأحزاب سلطات الدم

قاسم مرواني

الأحد 2021/10/17
نقود السيارة في شوارع بيروت ليلاً. نجتاز الإشارات الضوئية المطفأة. هناك متسولون عند كل تقاطع طرق. أطفال يبيعون الورود. نساء وعجائز يتفنّن في محاولتهن لفت انتباه العابرين وطلب المساعدة منهم.

نركن السيارة ونسير في شارع الحمراء. الكهرباء مقطوعة. بعض الحانات التي اعتدنا ارتيادها أقفلت أبوابها. ليل كئيب وأجواء كئيبة. حضور خفيف في أماكن السهر. نتبادل نظرات صامتة: أين الناس؟ سافروا أو فضلوا البقاء في البيوت؟ أمس حدثت حرب أهلية صغيرة في الطيونة. وهي واحدة من كوارث حلت بنا في العامين المنصرمين وكل شيء يبشر باستمرارها.

جيلا الأحلام الكبيرة
يصعب أن نتذكر الآن كيف كانت الحال قبل عامين. كيف كانت تسير الأمور بالضبط. وأين كانت أحلامنا وطموحاتنا. حتى نمط حياتنا أصبح شيئاً من الماضي. هناك أمر وحيد ثابت: الخط الفاصل بين حياتنا القديمة واليوم، هو 17 تشرين 2019. كان ذلك اليوم وما تلاه من أيام، يبعث الكثير من الأحلام. الكثير من الأمل. والكثير من السحر.

لكثرة من جيلنا بدا أن الحرب الأهلية التي بدأت في 13 نيسان 1975 بين الشياح وعين الرمانة، انتهت في 17 تشرين 2019. جيل آخر مسن، بعضه قد يكون في عمر آبائنا، بدا له أن تلك الحرب انتهت في 14 آذار 2005. وفي النهايتين المفترضتين هاتين، كان مشهد الجامع يعانق الكنيسة حقيقياً، للجلين إياهما: المسلمون والمسيحيون يتخالطون ويتظاهرون.

وقد يقول قائل: انتفاضة 14 آذار 2005 كانت، في وجه من وجوهها، لاستعادة زعماء سياسيين وتحريرهم وتثبيتهم. أما انتفاضة 17 تشرين 2019 فكانت، لإسقاط الزعماء إياهم.

ووصلت الأمور بالبعض في خضم تشرين 2019، إلى تنظيم لقاء بين أمهات الشياح وعين الرمانة، كعمل رمزي لتخطى الحرب الأهلية وانهاء الاقتتال الطائفي والمذهبي. بل لتجاوز ذلك إلى نهاية نظام قديم بكل رموزه وأمرائه.

ولجيلنا بدت أحزاب مثل حركة أمل، تيار المستقبل، التيار العوني بحكم المنتهة، بعد شهر على 17 تشرين. أي نشوة عارمة عشناها في ذلك الوقت؟

أسئلة الفشل
وها نحن جالسون في أحد مقاهي شارع الحمراء نكرر ذاك النقاش القديم الباهت نفسه: لماذا فشلت 17 تشرين؟ نعيد البحث عن مواطن الخلل، ولماذا انتهت اللحظة الأجمل في تاريخ لبنان الحديث إلى ما انتهت إليه؟

نستطيع تكرار أسباب كثيرة: تشرذم قوى المعارضة. العجز عن ترجمة إنجازات الشارع إلى قوة تغييرية على المستوى السياسي. خطاب المجتمع المدني الذي لا يصل إلى الطبقات الشعبية في الأطراف. مصالح البعض المتشابكة مع أحزاب السلطة... لكن السبب الرئيسي والفعلي هو: أحزاب هذه السلطة، أو السلطات، رغم تناحرها، أقوى منا بأشواط.

وفي أذهان من شاركوا في 17 تشرين، هناك فكرة راسخة: الأحزاب الحاكمة فشلت، وعليها أن تقر بفشلها، وتقدِم تلقائياً على تسليم السلطة إلى من يدير البلاد على نحو أفضل منها.

أحزاب سلطات الدم
وغاب عن بال ناشطي 17 تشرين أن هذه الأحزاب دفعت ثمن سلطتها دماء ألوف من اللبنانيين، ومليارات من الدولارات، إضافة إلى عقود من العمل الدؤوب.

وهذا كله مكّن هذه الأحزاب من السيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع والسلطات فيهما.

لذا صمدت أحزاب السلطة، مستندة إلى قوة حزب الله العسكرية المتماسكة تماسكاً حديدياً، ومدعومة بطبقة شعبية يغذيها الإعلام الموجه بما تحتاجه للمواجهة، من إيديولوجيا وخوف عميق ومستطير من الآخر.

يأس الطبقة الوسطى وهجرتها
معظم الذين شاركوا في 17 تشرين، في بيروت خصوصاً، هم من الطبقة الوسطى. هؤلاء كانوا يعيشون حياة جيدة إلى حد ما. لديهم وظائفهم وبيوتهم ونمط حياتهم الجيد.

خرجوا إلى الشارع للمطالبة بحياة سياسية أفضل. بالقضاء على الفساد وبناء دولة يحكمها القانون والمؤسسات، ويعيش فيها أبناؤها بعدالة.

وكان أمراً مثيراً للدهشة والسخرية أن يشاهد هؤلاء "الثوار" جموع الفقراء والمعدمين يتدفقون نحوهم من الخندق الغميق، ومن أحياء الضاحية الجنوبية، ويعتدون عليهم.

سوريالية المشهد دفعت معضم "الثوار" إلى اليأس، وأصبحت الهجرة هدفهم الأول.

أثناء حروب (1975 - 1990) الأهلية وبعدها، شهد لبنان موجات هجرة أعداد كبيرة من أبنائه. وكان أولئك المهاجرون من أصحاب الشهادات والاختصاصيين في معظمهم، ويقبلهم الغرب بصدر رحب.

من بقي في البلد بعد تلك السنوات الدموية العاصفة؟ الميليشيات التي خاضت أجيالها الحروب على المحاور، معتنقة أيديولوجيات أحزابها.

ويتكرر المشهد بعد 17 تشرين 2019. موجة جديدة من الهجرة بدأت. قوامها أيضاً أصحاب الشهادات والاختصاصيين، من أطباء ومهندسين وأصحاب أعمال. والأهم من ذلك أن هؤلاء تمردوا على الولاءات والانقسامات الطائفية، وعلى أحزابها التي تحاول اختصارهم وترويضهم. لذا غادروا ويغادرون البلاد، ويتركونها لأصحاب إيديولوجيات الصهر والقتال على المحاور.

4 آب: توقف الزمن
وكان كل شيء يتجه نحو الأسوأ: الكهرباء، الخدمات، المصارف، الفقر الذي بدأ يتفشى.. ثم ترويع 4 آب 2020 ومقتلته في بيروت. وتوقف الزمن بالجميع.

إذا مشيت اليوم من الجميزة فمار مخايل، وحتى الدورة والكرنتينا والزلقا وجل الديب، تجد ذلك الجرح لا زال حياً في قلوب الناس. كان 4 آب اللحظة التي أوصلت كثيرين إلى يأس حقيقي، فأتخذوا قرار المغادرة.

لم يقتصر انفجار الرابع من آب على مجرد خطأ تقني تسبب بالدمار والضحايا. بل كان الوجه الحقيقي لسلطة مهملة. أما المشكلة الأكبر فهي الطريقة التي سلكتها السلطة مع الانفجار: استغلال الضحايا لتتسول مساعدات من دول الغرب، ومن رفض التحقيق وتطييفه.

في لحظة بدا للجميع أن النظام قد سقط، أو راح يلفظ أنفاسه الأخيرة. مجرد أيام أو أشهر ويلفظ أنفاسه. الجميع كان يدرك أن لا حل للمشاكل إلا بإجراء تغيير حقيقي في بنية النظام. حتى المشاركون فيه من أحزاب وشخصيات أقروا أن هذا النظام القائم على التحاصص الطائفي لا يمكن أن يستمر بعد اليوم.

المسلحون والهروب
لكن الأحزاب ذهبت إلى خيار معاكس تماماً. دأبت على إعادة انتاج النظام بأبشع الوسائل الممكنه. بعدما تسببت سياساتها بإفقار الناس، حولتهم إلى ناجين، يصرفون طاقاتهم في محاولات يومية حثيثة لإيجاد قوتهم وحاجاتهم الأساسية.

وأمس في المكان نفسه - حيث اجتمعت أمهات عين الرمانة والشياح، في وقت اعتقد جيل كامل من الشبان/ات أن الحرب الأهلية  قد انتهت - عاد كل شيء إلى الوراء، إلى المشهد القديم نفسه: المسلحون، أزير الرصاص، المدنيون الهاربون في الطرق، الميليشيات المحاور.

والأسباب نفسها تتكرر: حماية الطائفة والوجود. كأنما 17 تشرين لم تكن يوماً، ولم تمر من هنا ولا في أي مكان من هذه البلاد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024