كلمة عون.. لولا الحياء لقال أن النازحين هم السبب

المدن - لبنان

الخميس 2019/10/31
توجه الرئيس ميشال عون إلى اللبنانيين بكلمة في الذكرى الثالثة لانتخابه معتبراً أنها "كشف حساب" بما التزم به في خطاب القسم.

وقال: "أتوجه إليكم اليوم مع انتهاء النصف الأول من الولاية الرئاسية، لأقدم لكم ما يشبه "كشف الحساب" بما التزمت به في خطاب القسم، بما تحقق وبما لم يتحقق، وبما ما زلت أعمل لتحقيقه. بالخطط الموضوعة وبالصعوبات التي واجهتنا. وكشف الحساب هذا صار ضرورياً أكثر، بعد حركة التظاهرات والاعتصامات التي حصلت مؤخراً وأسفرت عن استقالة الحكومة.
لقد التزمت في خطاب القسم بتأمين الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي، التزمت القضاء على الإرهاب، التزمت تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني، وإنجاز قانون انتخابي يؤمّن التمثيل العادل لكافة مكونات الشعب اللبناني، التزمت العمل على تأمين عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، والتزمت مكافحة الفساد. 

خمس خطوات
الأولوية كانت للاستقرار الأمني والقضاء على الإرهاب لأنه الأرضية لأي استقرار آخر، وعليه اتخذنا القرار السياسي اللازم، وأفضت التشكيلات الجديدة في الجيش والأجهزة الأمنية إلى توحيد الجهود والتوصل إلى اجتثاث المنظمات الإرهابية والقضاء على خلاياها النائمة، وهذه كانت الخطوة الأولى.

الخطوة الثانية كانت في تأمين الاستقرار السياسي. وأولى موجباته، إقرار قانون انتخابات يؤمن عدالة التمثيل. وعلى الرغم من كل الصعوبات المتراكمة، أُقرّ هذا القانون وانبثقت عن المجلس الجديد بعد مخاض عسير حكومة وحدة وطنية، تمثلت فيها مكونات مجتمعنا بشكل صحيح، أمّنت الاستقرار المنشود وكان مفترضاً أن تنصرف إلى معالجة الأزمات التي تطوّق الوطن وأولها الأزمة الاقتصادية والهمّ المعيشي.

الخطوة الثالثة كانت معالجة الشلل في العديد من مؤسسات الدولة من خلال سلسلة تعيينات وتفعيل دورها الذي كان مفتقداً لسنوات. وفي هذا الإطار أتت التعيينات القضائية مؤخراً والاصلاح القضائي الذي هو عملية مستدامة، لأن القضاء ينقّي ذاته بذاته إذا ما ارتفعت يد السياسيين عنه.

الخطوة الرابعة كانت على مسار عودة المالية العامة لكنف الدستور وقانون المحاسبة العمومية، بحيث تمّ اصدار ثلاث موازنات بعد 12 عاماً على انقطاعها، وعلى الصرف العشوائي المخالف للدستور، كما إحالة موازنة العام 2020 إلى المجلس النيابي ضمن المهلة الدستورية لأول مرة منذ زمن، وبنسبة ضئيلة من العجز، ومن دون زيادة ضرائب على المواطنين مع سقف للاستدانة وتخفيض جذري للنفقات غير المجدية.

وفي الإطار نفسه، رفضنا التسويات على الحسابات المالية. ونتيجة ذلك، أعيد تكوين الحسابات المالية منذ العام 1993 إلى اليوم وأحيلت إلى ديوان المحاسبة للتدقيق قضائياً بصحتها.

الخطوة الخامسة، لا بل المشكلة الخامسة، كانت الأزمة الاقتصادية الضاغطة والناتجة عن تراكم سياسات اقتصادية ومالية غير ملائمة، واتساع مزاريب الهدر والفساد، معطوفة على أزمات المحيط وحروبه.

وعود نفطية وجهود بلا نتائج
ولأن لبنان يمتلك ثروة في بحره وباطن أرضه تعود لآلاف السنين، أصريت أن يكون البند الأول من جدول أعمال الجلسة الأولى للحكومة إقرار مراسيم استخراج النفط والغاز. وبالفعل سيبدأ الحفر خلال شهرين ليدخل لبنان نادي البلدان المنتجة للنفط، ما سيؤمن له متنفساً اقتصادياً على المدى الطويل.

لقد بُذلت جهود كبيرة للمعالجات الاقتصادية ولكنها لم تأتِ بالنتائج المرجوة بعد. فالخطة الاقتصادية الوطنية لا تزال بانتظار إقرارها، ومشاريع البنى التحتية التي سيتأمن تمويلها من الجهات المانحة في إطار مؤتمر سيدر، مجمّدة، ولكن من المفترض أن تتحرك، بعد أن استجابت الحكومة المستقيلة لمعظم الشروط الموضوعة، خصوصاً في الموازنة الأخيرة والقرارات المرافقة لها، إلا أن الحكومة استقالت وصار هذا الملف الثقيل بانتظار الحكومة الجديدة التي يجب أن تضعه على السكة الصحيحة والسريعة.

شماعة النازحين
ويبقى موضوع النازحين السوريين، فمنذ تسلمي سدة الرئاسة حملت معي هذه الأزمة إلى المنابر الدولية والعربية، وكانت محوراً أساسياً خلال لقاءاتي مع الموفدين الدوليين، شرحت الأعباء المترتبة عنها على لبنان، ودعوت إلى إيجاد الحل لها بمعزل عن الحلول السياسية، ولكن الإجابات كانت تقريباً واحدة: كلام منمّق عن الدور الانساني الذي يقوم به لبنان، وكلام سياسي عن ربط العودة بالتوصل إلى حل سياسي، مع ضغوط متواصلة لإبقاء النازحين حيث هم، لاستعمالهم في ما بعد ورقة ضغط عند فرض التسويات السياسية. وهذا ما رفضه لبنان بشكل قاطع وهو اليوم يدفع ثمن هذا الرفض.

أيها اللبنانيون، أيها المواطنون الذين شاركوا بالاعتصامات، وخصوصاً الشباب منكم،
على الرغم من كل الضجيج الذي حاول أن يخنق صوتكم الحقيقي ويشوش عليه، ويذهب به إلى غير مكانه، تمكنتم من إيصال هذا الصوت الذي صدح مطالباً بحكومة تثقون بها، وبمكافحة الفساد الذي نخر الدولة ومؤسساتها لعقود وعقود، وبدولة مدنية حديثة تنتفي فيها الطائفية والمحاصصة.. 

حكومة تكنوقراط؟
أيها الأعزاء،
إن تشكيل الحكومات في لبنان عادة ما يخضع للعديد من الاعتبارات السياسية والتوازنات. وقد تكون هذه التوازنات هي من أهم أسباب الفشل المتكرر وعدم الوصول إلى الخواتيم السعيدة في العديد من المشاريع. لقد قامت الحكومة المستقيلة بعدد من الخطوات الشاقة، وأقرّت خططاً ومشاريع مهمة، ولكن مشكلتها كما سابقاتها، أن المقاربات فيها سياسية أكثر مما هي تقنية وتنفيذية. وشرط الاجماع الذي اعتمده البعض حال دون التوصل إلى الكثير من القرارات الضرورية.

اليوم نحن على أبواب حكومة جديدة، والاعتبار الوحيد المطلوب هذه المرة هو أن تلبي طموحات اللبنانيين، وتنال ثقتهم أولاً ثم ثقة ممثليهم في البرلمان، وأن تتمكن من تحقيق ما عجزت عنه الحكومة السابقة، بأن تعيد للشعب اللبناني ثقته بدولته. ولذلك يجب أن يتم اختيار الوزراء والوزيرات وفق الكفاءة والخبرة وليس وفق الولاءات السياسية أو استرضاءً للزعامات؛ فلبنان عند مفترق خطير خصوصاً من الناحية الاقتصادية. وهو بأمسّ الحاجة إلى حكومة منسجمة قادرة على الإنتاج، لا تعرقلها الصراعات السياسية والمناكفات، ومدعومة من شعبها. أما مكافحة الفساد فهي طريق طويل وعمل دؤوب مستمر، خصوصاً في بلد تجذر فيه طوال سنوات وسنوات؛ في الإدارة فساد، في السياسة فساد، في المال العام فساد، وفي بعض المجتمع فساد أيضاً.

القضاء.. القضاء
ولكن مهما يكن الطريق شاقاً فإنني مصمم على المضي فيه، وأول الغيث هو تطبيق القوانين الموجودة ثم إقرار ما يلزم من تشريعات لتعزيز الشفافية وإتاحة المساءلة للجميع. وحتى لا يبقى الدوران في حلقة مفرغة أكرر ندائي للبنانيين بأن يضغطوا على ممثليهم في البرلمان لإقرار القوانين التالية: إنشاء محكمة خاصة بالجرائم الواقعة على المال العام، إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، استرداد الأموال المنهوبة، ورفع الحصانات ورفع السرية المصرفية عن المسؤولين الحاليين والسابقين وكل من يتعاطى بالمال العام.
 
ولأن دور السياسي والبرلماني هو التشريع والمراقبة، بينما المحاسبة هي للقضاء فإن آلية استرداد الحقوق والأموال العامة المنهوبة والموهوبة لن تؤتي ثمارها من دون قيام سلطة قضائية مستقلة وشجاعة ومنزهة. وقد أتت التعيينات القضائية الاخيرة لرئيس جديد لمجلس القضاء الأعلى وسائر المراكز القيادية القضائية لتضاف إلى الجهود التي ستؤول حتما إلى قانون جديد للسلطة القضائية المستقلة.

ورشة الدولة المدنية!
وتبقى مطالبتكم بالدولة المدنية. إن الانتقال من النظام الطائفي السائد إلى الدولة المدنية، دولة المواطن والمواطنة، هو خشبة الخلاص للبنان من موروثات الطائفية ومشاكلها، وأكرر اليوم ما سبق وقلته خلال إطلاق "مئوية لبنان الكبير" من "أن الطائفية مرض مدمر يستعملها أعداء الوطن كلما أرادوا ضربه"، وعن "إيماني بضرورة الانتقال من النظام الطائفي السائد إلى الدولة المدنية العصرية حيث الانتماء الأول هو للوطن وليس لزعماء الطوائف" وحيث "القانون هو الضامن لحقوق الجميع بالتساوي والكفاءة هي المعيار".

إن صوتكم في الساحات وهو ينادي بالدولة المدنية، خطوة واعدة، لأن أولى ركائز الدولة المدنية هي قبول شعبي بها. إذ لا يمكن أن تُفرض فرضاً، وإذا فُرضت ستفشل حتماً. لذلك، فإن أمامنا وإياكم عملاً دؤوباً لأطلاق ورشة مشاورات وطنية حولها لأقناع من يجب إقناعه بأهميتها وضرورتها.

تعهدات 
أيها اللبنانيون، مع بدء النصف الثاني من الولاية الرئاسية، أتعهد اليوم أمامكم:
بمتابعة الحرب على الفساد عن طريق التشريع اللازم والقضاء العادل والنزيه بعيداً عن أي انتقائية أو استنسابية، وأيضاً بعيداً عن أي تعميم..
أتعهد بالدفع باتجاه اقتصاد منتج والاستفادة من قدرات دولتنا وثرواتها وقطاعنا الخاص والمصرفي لاعتماد سياسات مالية صحيحة ولتمويل مشاريع منتجة تخلق فرص عمل للبنانيين وتحد من هجرة الأدمغة والكفاءات.

أتعهد ببذل كل الجهود لإقامة الدولة المدنية العصرية والتخلص من براثن الطائفية التي تشكل الخاصرة الرخوة لوطننا ومجتمعنا، وأول خطوة بهذا الاتجاه هي قانون موحّد للأحوال الشخصية.
أيها اللبنانيون..
نحن في خضم أزمة مفصلية، ولكن الخروج منها ليس بالمستحيل، ولأن حكومة حائزة على ثقة اللبنانيين هي ضرورة ملحّة اليوم، أتوجه إلى جميع الكتل النيابية لتسهيل ولادتها، وأدعو الشعب اللبناني إلى مساندتها لأن ما ينتظرها هو عمل كثير وقرارات صعبة. 

وأتوجه أيضاً إلى جميع القيادات والمسؤولين:
بقدر ما أن التحركات الشعبية المطلبية والعفوية محقة وتساهم في تصويب بعض المسارات، فإن استغلال الشارع في مقابل شارع آخر هو أخطر ما يمكن أن يهدد وحدة الوطن وسلمه الأهلي، ويقيني أن أحداً لا يمكنه أن يحمل على ضميره وزر خراب الهيكل. 
أما إلى شباب لبنان فأقول: لطالما كنتم نواة شعب لبنان العظيم وقلبه النابض، ولطالما كان إيماني بكم كبيراً وبقوة التغيير التي تمثلون. إن لبنان اليوم يمرّ بأزمة حادة، ولكننا شعب لا تضعفه الأزمات بل تزيده تماسكاً وإصراراً على مواجهة التحديات. وعبور هذه الأزمة هو مسؤوليتنا جميعاً، فلا تسمحوا لأحلامكم وخياراتكم أن تتهاوى أمام توظيف من هنا واستغلال من هناك. 
عشتم وعاش لبنان".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024