مسؤولية زياد عيتاني.. والدولة

عزة سليمان

الأربعاء 2017/12/06

خلال الأيام الماضية، طُرِحت قضية العمالة على مستوى وطني وحصلت نقاشات استثنائية في وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فالقضية رغم كونها ليست القضية الأولى من هذا النوع، أصبحت بشكل مفاجئ موضوع الساعة وباتت من الثوابت المرتبطة "بالأمن القومي"، ولم يتنبه أحد كم أصبحنا شعباً يعيش على الفقاعات فيتم استدراجنا واستخدامنا في نقاشات فارغة من قبل المحرِّكين "المحليين" و"الاقليميين" و"الدوليين" بشكل متشابه ومتطابق ساعة يشاؤون ودون أن نطرح أي علامة استفهام على توقيت ما يحدث ولماذا الآن تحديداً.

المستغرب هذه المرة، مع قضية المتهم بالتعامل مع العدو زياد عيتاني، أن الهم الوطني لم يطرح من باب مسؤولية الأجهزة الأمنية والقضائية عن طمس هوية "اللبناني" الذي كان سيدرِّب عيتاني في الفندق الذي جرى فيها الحجز، فذلك الذي دبّر الحجز الفندقي اكتسب الحصانة الاجتماعية انطلاقاً من قرينة البراءة، لكن هذه القرينة وهي المبدأ في المحاكمات العادلة لم يستفد منها المتهم الحالي.

الغريب أن الموضوع لم يتطرق إلى عدم مهنية الجهاز الأمني الذي تعّمد عدم الحفاظ على سرية المعلومات والتحقيق، علماً أن الموضوع له تداعيات على حقوق عائلات وكراماتها واستقرارها، وهي حقوق تكفلها القوانين المحلية والدولية.

الأشد استغراباً أن مقاربة الأمر من باب دور الدولة ومؤسساتها بتشكيل حصانة وطنية واجتماعية واقتصادية لمواطن يعيش شتى أنواع الانهيارات بالمنظومة الأخلاقية والثقافية العامة لم يحصل. فأين هو دور المؤسسات الوطنية في رفع مستوى الخطابات السياسية والدينية والاجتماعية والإعلامية والفنية والأكاديمية والتربوية؟ الجواب هو أن الفراغ المؤسساتي سيد الموقف، مقابل تعميم ثقافة الانقسامات والخطابات الصريحة والعلنية التي باتت تروِّج للتطبيع مع العدو دون خجل.

هنا يُطرح التساؤل: أين هي برامج التربية المدنية والرؤية الموّحدة للتاريخ الوطني؟ ولعلنا نجني حصاد سحب تدريس القضية الفلسطينية من المنهج، والآتي أعظم، خصوصاً أننا نعيش في ظل نظام اقتصادي منفتح على كل أنواع التعامل، وباتت السياحة الدينية حقاً مقدساً تعلو الأصوات للمطالبة بتحقيقها. وثمة ثورات ثقافية ضد ثقافة العنف وضد أشكال التمييز العنصري على أساس ديني. وثمة "رموز ثقافية لبنانية" تشارك في محافل دولية فيها نشاطات مشبوهة. وثمة احتفالات تتم بالتزامن بين عواصم لا تزال أنظمتها في حالة عداء. وثمة تمجيد لفنانين وأدباء ثبت تعاملهم بشكل مباشر وعلني مع مؤسسات العدو الصهيوني– والهدف هو الترويج لـ"فكرنا العظيم"، ولا يسعنا إلا أن نتحسر على إسقاط القضاء بمرور الزمن بعض القضايا المرتبطة بالتعامل أو منح المتعاملين الأسباب التخفيفية بجرعات فائضة.

هنا، لا بد من التذكير بأن "ثقافة التطبيع" هي انعكاس لحالة فئة من المجتمع، وهي ليست بأي حال من الأحوال مجرد عمالة فردية، وأن مختلف المعلومات عن الأشخاص سواء أكانوا سياسيين أم إعلاميين، ليست سراً على عدوٍّ شرسٍ ذكيٍّ يتقدم علينا بالثورة التكنولوجية بسنين ضوئية ويراقبنا ليل نهار بواسطة أقماره الاصطناعية. وعلينا ألا ننسى أننا في عصر ثورة الاتصالات والانترنت وإنتشار مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والشرائح الممغنطة والبيومترية، التي يمكنها أن تخترق تفاصيل الحياة اليومية للشخص المعني.

الصدمة على المستوى العام حصلت، ربما لأن المتهم أو الموقوف أو اللبناني الذي سقط في أبشع جرم أخلاقي، هو شخصية عامة تتماهى معها فئات شعبية.. ولكن، علينا ألا ننسى أن الموقوف هو مواطن يشبه كل مواطن آخر بإمكانه أن يخطئ أو أن يصيب، ويجب عدم تعليق المشانق قبل صدور القرار القضائي العادل بحقه.. وكم من سياسي لبناني وعربي وقع في فخ فضائح أخلاقية نصبها له لواء مختص في استخبارات العدو فباع الوطن والقضية.

تكمن خطورة الواقع في النظر إلى حالة المواطن الشريف الذي اجتهد باحثاً عن وطن يليق بمستوى طموحاته وعنفوانه، فاصطدم بالبؤر الأمنية والطائفية ووقع في شراكها، فإذا به ينكشف نتيجة تقصير الدولة والقيمين عليها على كل أشكال الانتهاكات والخروقات، لأن "الدولة" أسقطت عنه الحصانات الأخلاقية ووسائل الحماية والمناعة الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية.. والوطنية.

لعل الشق الأبرز في قضية عيتاني كان تهمة الترويج للتطبيع.. يا لها من تهمة تسويقية واستثنائية، كان حرياً الانتظار مدة أطول من الزمن لينسى الشعب اللبناني ما حصل منذ شهرين في قضية تعلقت بزميل له عاش لبرهة من الزمن في بلاد العدو باحثاً عن الشهرة والعالمية وبحثت الدولة معه برموزها السياسية عن الجوائز التقديرية. منذ شهرين كان لدينا "متهم أكبر واخطر"، لم يقتنع القاضي وقتها بوجود "نية التعامل مع العدو" في قضيته، لكن ذلك الزميل كان يحمل جنسية أخرى غير اللبنانية، وذلك الزميل كان قد التقى بنواب ووزراء. الأمر الذي أكسبه وقتها حصانة قضائية ورسمية. ألم يتنبه أحد لتداعيات تلك الحادثة؟ ألم تغلق الأبواب حينها باعتبار أن ثمة "رهاباً" في الحديث عن التعامل والتطبيع الفني والثقافي مع العدو؟ ماذا تغير اليوم؟ أهي لعنة المواطنة، أم لعنة عدم التعاطي مع الفئات القادرة على رفع من تشاء من أوحال قضائية وتغميس من تشاء، أم هي لعنة التسويق لأهمية جهاز أمني؟

ثمة ما يتعلق بمفهوم "التطبيع" نفسه، ثمة منهجة واضحة لخلط مفاهيم لا يختلف عليها أحد بشكل عشوائي من أجل برمجة العقل العربي عامة واللبناني خاصة. فمجتمعاتنا باتت تسقط بخطى متسارعة في درب العمالة. وهنا، لا بد من طرح الأسئلة التالية:

هل المطلوب أن نجلد آلاف المرات ونقبل العنف الذي نتعرض له يومياً وفي كل لحظة، كي لا نتهم بالعمالة؟ هذا العنف الذي لا يبدأ على الطرق ولا ينتهي في البحث عن كرامة تسد رمق حاجة الحياة الأساسية إلا على أبواب زعماء حرب؟

هل المطلوب أن نتحمل العنف الطائفي في ثقافتنا ليشكل حماية وحصانة لأخلاقياتنا، أو أن الاستزلام لزعيم طائفي أو العمالة مع رجل أعمال فاسد مرتبط تحت غطاء الشرعية الطائفية السلطوية المحلية، أو العمالة لمؤسسات تستخدم مواطنيها في قضاياهم (وإن كانت مشبوهة أو مشتبهاً بها) لتكسب في الصراع السلطوي القائم في مرحلة إعادة التوازنات السياسية، المحلية والإقليمية والدولية!

لو قامت مؤسسات الدولة على اختلافها بدورها الأساسي ضمن سياق وطني واضح، لما وصل أي مواطن إلى هذا المأزق الذي يبقى إفتراضياً حتى صدور القرار القضائي النهائي.

أول من يثبت فشله عند وجود مثل هذه الحالات هم القيمون على هذه الدولة. بالتالي، فإن المسؤولية عامة!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024