مقاومة وسيادة وشعب يريد

أحمد جابر

الثلاثاء 2021/02/23

بين الشعار والواقع يتوزع اللبنانيون جماعات مختلفة، وإذا كانت كلمة "شعب" لا تدل دلالة تامة على الجموع اللبنانية، فإن كلمة شعوب تسقط هي الأخرى، دون ملامسة تحويل كل جماعة إلى شعب.

في غياب الشعبية، المنسوبة إلى شعب، يجوز استخدام كلمة الجماعاتية، نسبة إلى الجماعة، مما يجوز معه استطراداً، جعل الشعارية، المستلة من الشعار، واسطة التئام عقد كل جماعة، وحاضنة استواء لحمتها البينية استواءً ليِّنا بحيث تكون الطاعة الطوعية، خياراً ورابطة انتظام.

على قاعدة الجماعاتية، وبناءً على الانحدار الاندماجي الذي يتدحرج في منحنياته الوضع اللبناني، تقدم الوقائع انقساماً فئوياً لبنانياً تتوزعه شعارات مختلفة. هذا الانقسام له سمة طائفية ومذهبية غالبة، تختص بكل شعار، وعلى هامش كل غلبة يقيم جمهور "حائر" عموماً، وعاجز عن الفعل في مكان إقامته، أي أنه (الجمهور) يأخذ من مكان إقامته صفته الملازمة له، وهذه ليست سوى الهامشية على صعيد الوزن والفعل والتأثير، في مجرى الانقسامات العامة. وفقاً لما تقدم، لنا أن نلاحظ أن "اللبنانية" السياسية تتوزع إجمالا، على شعارات ثلاثة، المقاومة والسيادة والشعب الذي يريد تغييراً. عليه، كيف لنا أن نقرأ النص نيابة عن أصحابه؟ أي كيف نقرأ قراءة هؤلاء لمصالحهم، بحيث نتبين الواقعي منها، وما يتجاوز منها على واقع الحال.

1- شعار المقاومة وشعاريتها:
كان شعار المقاومة حقيقياً، أي واقعياً، عندما كانت الأرض اللبنانية محتلة، وكان هدف التحرير مرتبطاً مباشرة، بهدف استعادة السيرورة اللبنانية الطبيعية للسياق اللبناني، فكان ممكناً الجزم، بأن "الطبيعة" اللبنانية لا يمكن أن تستقيم من دون كسر قيد الاحتلال الذي كان يسجن الإرادة التطويرية اللبنانية. وفي زمن الاحتلال، كان الشعار منسجماً مع الطموح وكان الحاضر السياسي اللبناني، مرتبطاً بالمستقبل، وعليه، كانت "الحركة" الصراعية حركة تقدمية، بمعنى أنها تأخذ بيد "اللبنانية" العامة إلى الأمام. نظرت الأغلبية اللبنانية إلى هذه الحركة نظرة قبول ورضى ودعم، مثلما حظيت بصمت المخالفين، ولم تصطدم برفض المتوجسين، مما يعني، ومع التحفظ الواجب، أن "اللبنانية" الراجحة، كانت ترى في كسر هيمنة الاحتلال الإسرائيلي، مصلحة داخلية عامة. لقد غطّت "اللبنانية" تلك، بعمومية انتماءاتها، على البعد المذهبي الذي تنتمي إليه الحزبية المقاومة، وهذا ساعد على استبعاد السجال الفئوي التنازعي، وقدّم بأشكال مختلفة أولوية الصراع مع "التناقض الرئيسي" الاحتلالي، على "التناقض الثانوي"، الذي يتجلى دائماً في هيئة صراع على المواقع والحصص ضمن التشكيلة الداخلية.

بعد التحرير صار الشعار شعارية، وهذا يعود إلى تمسك أبناء المقاومة بكامل بنود خطابهم السياسي، بعد أن زال الأساس المادي لهذا الخطاب. مع هذا الانتقال، انتقل الوضع اللبناني سياسياً، فرُفع غطاء الرضى، وسُحب بساط القبول، واهتزت أرض الدعم، وانحسرت رقعة الخطاب لتصير مقتصرة، وبشكل اطرادي، على الجمهور الخاص المذهبي، مما أفضى إلى نتيجتين سلبيتين، أولاهما، تقوقع أهل الشعار ضمن بيئتهم الحاضنة الخاصة، والثانية، استنفار طائفيات ومذهبيات مقابلة، بلغ رفض بعضها الشعارية المقاومة، حدّ الخصومة مع رافعي لواء تلك الشعارية.

في الحديث عن الواقعي الممكن، والمسموح لبنانياً، يقع الشعار المقاوم في منطلقاته الأولى، ضمن هذا المجال الفسيح، وفي حديث التجاوز والممتنع وغير الممكن، تحتل الشعارية خانة ضيقة، تضع أهلها في حالة تشبه حالة الحصار.

2- شعارية السيادة الغائمة:
ارتفع شعار السيادة والاستقلال من قبل الذين أعلنوا أسبقيتهم في مضمار اللبنانية "الناجزة". هؤلاء اللبنانيون، خاضوا معارك داخلية سابقة، في ظل الشعار ذاته، فكان المخالف غريباً، وكان ناقص اللبنانية، وكان موضع شبهة، لجهة ارتباطه بالخارج العربي، شعاراتياً، أو على صعيد الولاء السياسي لفكرة محددة، ولإيديولوجيا معينة. هذه مناسبة للقول، إن شعار السيادة كان، غالباً، شعاراً أقصى، عندما كانت شعارات العروبة والاشتراكية والوحدة، شعارات قصوى أيضاً. وكما هو معلوم اليوم، فإن كل "أقصى"، وفي غياب المشاريع العامة، أي تلك التي تحمل "خلطة" بنيوية عامة، تشبه كتلة شعبية مختلطة، وتعبِّر عنها، في هذا الغياب العام، انبعثت وتناسلت الطموحات الخاصة، التي لم تستطع أن تتحول إلى برنامج واسع، يتعدى حدود الخاص، ويتجاوز الفئة الأهلية المحددة إلى فئات أهلية متعددة.

لكن كيف تستحضر الفئة السيادية ذاتها؟ يحصل ذلك، غالباً، من خلال طرح مطالب غير واقعية، وهذا ليس على معنى مجافاة الواقع في وقائعه، وإنما على معنى غياب القوى اللازمة لحمل المطالب، والقدرة على توسيع رقعتها الأهلية - الاجتماعية، ودق أبواب تنفيذها، وجعلها واقعاً ملموساً في جنبات الواقع الملموس. نسوق، وعلى سبيل الوضوح، مثال نزع سلاح حزب الله، لتكون الدولة مالكاً حصرياً للسلاح. هذا شعار نهائي، من دون مقدمات تراكمية بدئية، وما يفعله صاحب الشعار هنا، ليس أكثر من مواجهة شعار أقصى، الاحتفاظ بالسلاح، بشعار أقصى مقابل، نزع السلاح. مواجهة قصوى بين طرفين وشعارين، من دون الانتباه إلى المسافة الحدية الفاصلة بين هنا وهناك، ومن دون الإشارة إلى كيفية ردم هكذا مسافة، أو وصلها، أو إزالتها باتصال­­ هادئ، طالما أن إلغاءها متعذر، من خلال انفصال عنيف.

مثال آخر، هو ما تحمله القوات اللبنانية وتدعو إليه، في صيغة انتخابات نيابية مبكرة، وذلك كمقدمة لإعادة تكوين السلطة. ماذا يتضمن هكذا شعار؟ ليس أقل من دعوة السلطة القائمة إلى قبول خسارتها سلفاً، وهكذا يكون تنفيذ المطلب التغييري، رهن بإرادة الطرف المطلوب تغييره، وتسريح ممثليه من الخدمة العامة! يقع الطلب المشار إليه في خانة التحليق فوق معطيات الوقائع، ويتساوى في "غيمومته"، مع شعار نزع السلاح، ويتقاسم المطلبان صفة الاستحالة، واقعياً، مثلما تجمعهما صفة المناشدة، التي يلجأ إليها الخصم الذي لا تسعفه ذاته الضعيفة، فيلتمس "استضعاف" خصمه القوي لذاته، وبإرادته.

ما الخلاصة السيادية التي ترشح من فئة السيادة؟ ليس أقل من طلب تغيير مسار السياق الداخلي، على الضد من رغبة الأقوياء الممسكين به، وعلى الضد من علم المطالب، أن وهم القوة، لا ينوب عن حقيقة القوى التي يتوجب بناؤها عند طلب كل تغيير. هذا إذا كانت السيادة المطلوبة ملتزمة بسياق الداخل، الذي يديم شرعية سياديتها. أما إذا كان الأمر أمر استقواء بخارج ما، فإن السؤال الأول المطروح سيكون: عن أية سيادة تحدث السياديون؟ وما الفرق عندها، بين سيادة سلاحية، وسيادة خطابية؟ طالما أن السيادتين تخضعان لعامل استدعاء القوة الخارجية.

3- شعب يريد:
الشعب يريد إسقاط النظام. هذا شعار حمله "جمهور" التحرك الشعبي الذي انطلق بقوة في تشرين الأول سنة 2019. اليوم وعلى مسافة مراجعة من تاريخ الانطلاقة الشعبية، يجوز القول إن الساحات امتلأت يومها "بتوق شعبي"، ولم تمتلء بشعب لبناني واحد، يخالف ما هو معروف من شعب مقاومة، وشعب سيادة، وشعب لبنانية منزّهة عن الاختلاط "الجيني". استحضار لوحة المجموعات التي شاركت في التحرك، يضيء على جوانب واقعية من توق الجمهور الذي طمحت فئات واسعة منه إلى أن تكون شعباً في الوقت الذي لم تشاركها فئات أخرى ذات الطموح. التفاوت في "الشعبية"، ما زالت قراءته ممكنة في مرآة تناسل الجمعيات، واستنبات الأسماء، والإكثار من المسمّيات - الصفات، وهذا من جهة ما خيّل أنه حشد حاشد، ذو جسم إمكانية التنسيق والتوافق والانتظام، بالحدود اللازمة لإدارة الحشود التي تود أن تكون شعباً، هذه الإمكانية استعصت على التجسد، ثم صارت ضرباً من ضروب الحرث في بحر المنوعات "الجماهيرية"، التي لا تستقر في لج "اعتراضي" ولا تهدأ عند رمل شاطئ سياسي.

الافتقار إلى برنامج مشترك، جعل العمومية عنصراً جامعاً، لكن ذلك لم يكن ناجعاً إلاّ إلى حين، أما موضع "الناجع" فكان في الحركة، لكنه كان غير ملائم في السياسة، هذا إذا لم نقل أنه ضار على أكثر من صعيد. مثال على ذلك، شعار  "كلن يعني كلن"، هذا تعميم رفض، أو عجز، عن رؤية التباينات والاختلافات ضمن بنية النظام ذاتها، لذلك خسر التحرك الكسب تكتيكياً، فلم يستثمر في شقوق جدار النظام ثم خسر حشدا، عندما خرجت أطراف "نظامية" من التحرك، لأنها رفضت استهداف خصوصيتها، بعمومية الشعار، واستنكرت إضافتها إلى "فوق"، في الوقت الذي أسهمت فيه إسهاماً ملحوظاً في الحركة "تحت". التعميم الذي لم يشرحه أهله كفاية، بل هم لم يشرحوه أصلاً، قاد الشارع إلى شعارية بدت فئوية، حين اكتفى الحراكيون بمطلب نزع سلاح المقاومة، ولم ينتبهوا إلى السيادية التي رفعها من أرادوا أن يكونوا سياديين على طريقتهم، ولبنانيين حسب تصنيفهم للبنانية، ومقاومين، يبدأ تاريخ مقاومتهم من موقع نزاعي مع فئات لبنانية واسعة، هي غير الفئة المستهدفة بالنزاع اليوم.

في الخلاصة، لم يفلح الشارع في خطواته الأولى نحو أن يكون شعباً، وسريعاً ظهرت حقيقة الوحدة "الصوتية"، التي قصّرت عن أن تلامس الوحدة "الجسدية"، بما هي فكرة وبرنامج عمل. وعليه، كان من طبيعة الأشياء، تبدد الزخم الذي خاله كثيرون تراكم جبل قوى، فانكشف الأمر عن خداع بصر، ينزاح كلما اقترب البصير من موضوع إبصاره.

4- على الطريق:
بين شعار وشعارية، وبين إرادة وإرادوية، يبدو الإلتباس سيد "الوضوح" عند كل طرف يدَعي وضوحاً، ما يخترق السلوك وما يقابله من اختلافات وخصومات، وما يثيره المشهد من أحلام وطموحات، يقدم نموذجاً ملموساً عن غياب السياسات الناظمة للحاكم وللمحكوم، وما لم تتواجه الفئات الشعبية ببرامج وبكلام سياسي يميز جيداً بين الممكن والممتنع والضروري والمستحيل.. سيظل الصخب سيد المنابر.. وكيف يكون زرع، وغمام السياسة برق خلب، وسراب حصاد بعيد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024