التدقيق الجنائي السياسي.. ولصوص المال العام

أحمد جابر

السبت 2021/04/10

يتمسك رئيس الجمهورية بالتدقيق الجنائي، وهو يحسب، في سرّه وفي بعض جهره، أنه سيجني كسباً شعبياً وسياسياً، من إصراره على تعبيد الطريق، القانوني والسياسي، أمام هذا التدقيق. فإن حصل الأمر، وسلك جادة التطبيق، عدّه الرئيس، وتياره وأنصاره، درّة تاج التعويض عن مسيرة خسائر العهد المتوالية.. لكن العرض المتأني لأهداف العهد ولاستهدافاته، يظهر أن حسابات "حقل" الرئيس وحسابات مستشاريه ومعاونيه، لن تطابق حسابات "بيادر" القوى السياسية التي لا ترى رأي الرئيس، بل هي ترى في مرآة مناوراتها المتبادلة، أن سياسة رئيس الجمهورية، في المجال المالي وفي غيره من المجالات، مناورة مكشوفة المآل الخصوصي الضيق، رغم كل ما تختفي خلفه من براقع الحرص الوطني العام. على هذا الصعيد، تبدو الرئاسة خاسرة شعبياً، وخاسرة سياسياً أيضاً. الخسارة شعبياً، لأن معركة التدقيق لا أنصار لها سوى ضمن جمهور تيار القصر تحديداً، هذا لأن الجمهور الآخر يدخلها مدخل الاستهداف الكيدي ضده. وخاسرة سياسياً، لأن مسألة "الأمر لي"، تقع موقع نزاع بين أطراف التشكيلة الحاكمة والمتحكمة، نزاع مواقع وأدوار وأحجام وتبيان حدود الفصل، واحترام خطوطها، المرسومة بعناية وإتقان.

فساد وفساد
من الحكم على المطالبة التدقيقية بالفشل، ومن توقع الخسارة خلاصة لها، تكون العودة إلى مسألة الفساد العام، في النظام وفي السلطة، مما لا ينبغي معه الابتسار، أو الاختزال، أو الانتقاء. أي لا يجوز، حيال الفساد الذي ينخر بنية الكيان ومؤسساته، الاكتفاء بخطاب الفساد المالي، الذي هو خطير وذو تداعيات مدمرة على الوضع الوطني العام، لكنه لا يشكل أساس الفساد السلطوي، بل هو فرع من فروع فساد الائتلاف التناهبي، وثمرة من ثمار شجرته الخبيثة.

بنية الفساد المائلة
مدخل الحديث عن البنية، معاينة عناصر تماسكها، وتعيين عناصر اهتزازها، ومن ثم تبويب هذه العناصر، وفق تراتبية تتدرج من الأشد خطراً إلى الأقل إيذاء، هذا يعني، في حالة الفساد اللبنانية، البدء من الفساد السياسي، الذي يشكل رأس هرم "المنظومة" الفاسدة، المسؤولة بدورها، عن تعميم سوئها داخل "المقر الأهلي" لكل منها، والمسؤولة عن تحويل انبعاثات الفساد إلى هواء تعبّه نفوس الزبائنيات الأهلية العامة، بحيث تُرسى معادلة "لصوصية"، يتوزّع ضمنها كل جمْع أهلي، بين سارق "جمل" وسارق "إبرة"، مما يسْهُل معه توليد "أخلاق" الصفح المتبادل، والإسناد التبريري المشترك، والتآزر في وجه كل محاسبة، مما تُمليه "فضيلة" اللصوصية الواحدة.
في كنف الفساد الزبائني، وفي ركاب تقاسم المغانم المختل، بين الحاكم والمحكوم، تتعذّر المساءلة، وتُمنع وتُصدّ، إذ كيف يحاسب لصٌ زميله؟ وكيف يستنكر سارق تابع، فعل السارق المتبوع؟

على ما تقدم، وإذا كان الفساد السياسي إسماً عاماً لسلوك "بمنازل كثيرة"، وجب الانتقال إلى تسمية هذه المنازل، ومن المسكن تعرف هوية السكان. اعتماد أسلوب التسمية، يلغي أسلوب التعمية. وهذه الأخيرة باتت لغة التراشق اليومي بين الأطراف السياسية، وكثيراً ما نسمع، عبارة "قال البعض وفعل البعض..." من دون أن نعرف إسم هذا البعض الذي يقصده البعض الآخر. ضمن هذا السياق، أين يقع إسم هذا البعض الفاسد؟ أي ضمن أي سكن سياسي؟ وما هي السياسات الفسادية والإفسادية، التي شكلت وتشكل مجتمعة، مجمل الأداء السياسي الذي قاد الوضع اللبناني على دروب التقهقر والانحدار؟

أ- فساد التبعية
لقد شكل استتباع لبنان الأساس الفاسد الأخطر على الوضع اللبناني، فلقد قبل من رعى "بروتوكول" التبعية بالقيود التي كبلت المفاصل الداخلية، وارتضى الانخراط في عملية سياسية تقدم مصلحة الخارج على الداخل، ونفّذ، باسم المصلحة المشتركة التي صيغت بغلبة التبعية، سياسات داخلية أصابت السيادة والاستقلال والوحدة المجتمعية، في صميم معنى كل منها، وأفرغتها مما كان لها من مشتركات تاريخية، وأقفلت دونها أبواب استمرار تقدمها نحو اكتساب مزيد من البلورة الوطنية والحصانة المجتمعية.

ب- فساد الشعارية
أقامت الشعارية في لبنان، وارتدت ملابس شتّى، فكانت سيادية من دون سيادة، ودينية من غير دين، ومذهبية من دون مذهب، وأسطورة "فضائية" من دون سند أرضي، وتاريخ نضال وحرية وتحرر وتقدم وحضارة ومدنية.. لم يرسب منه سوى القشور من كل تلك المسميات، ولم ينل الاجتماع اللبناني من تلك المسميات، سوى توالد وتناسل اصطفافات خلافية، وصلت في الأيام اللبنانية الحالية إلى حد الشرذمة، التي استعاد فيها كل طرف في الجمع الأهلي "هويته" التكوينية البدئية.

الشعارية المنوّه عنها واحدة من تجليات السياسة، مجرى من مجاري انسياب جدولها. وهي في مضمونها استقطاب إلحاقي بالمفرق، يتشكل من جمعه الاستقطاب الإلحاقي بالجملة، فتتأسس التبعية المفروضة من خارج، وبضغط الخارج، على تبعيات مفروضة في الداخل، وبواسطة أهالي الداخل. وفي حين تُعطى للالتحاق الداخلي صفة الخيار الطوعي الذي اعتمده "المحكوم"، يعتمد "الحاكم" صفة ممثل مجموعة الطواعية الداخلية، ليجعلها بدوره خياراً حراً له، عند التحاقه بطرف من أطراف الوصاية الخارجية، معللاً ذلك بضرورات المصلحة الوطنية.

راهناً، انكشفت هذه الشعارية، وسقطت في الشارع، تلك هي حال شعارية الفرادة اللبنانية سابقاً، وشعارية النضالية التحريرية حالياً، ومعهما سائر الادعاءات التي تنقلت بين وصايات عربية، سورية وغير سورية، ووصايات أجنبية، إيرانية مقيمة، وغير إيرانية تحوّم في فضاء الكيان، الجغرافي والسياسي والأهلي العام.

ج- فساد الزبائنية
حلقة الفساد الزبائنية لها دور هام في إسناد فساد التبعية وفساد الشعارية.. الاستتباع، بما هو استقواء لفئة أهلية داخلية، له خطابه التبريري، السياسي والأيديولوجي، وله شعاريته التعبوية التي تشد عصب جمهوره، وله أيضاً زبائنيته، التي تجعل "الكل رابحاً" في سياق التبعية. إذن، بالزبائنية، ومعها، يفوز الفساد السياسي التابع، بولاء قاعدته المادية، بعد فوزه "النظري" بهذه القاعدة، وهكذا يصير الفساد السياسي مثلث الرؤوس، ويستوي كائناً ناطقاً بكذب سياسي، وبنفاق مجتمعي، وراعياً لتوزيع رشى، على كتلة يوظفها في الدفاع عن خياراته السياسية. في الحصيلة، تصير الكتلة موضوع المخاطبة من قبل راعيها، وتكون هي مدار اهتمام هذا الراعي، ومن مادتها تكون حصانة المسؤول، ومن حقيقة وجودها، يستمد شرعية وجوده.. والمسؤول، كما سبق القول، متصرّف غير مُساءَل، وهو إن قال، يقع خطابه لدى جمهوره موقع الوثوق والدقة والصحة، لكأنه "لا ينطق عن الهوى".. لكن أيّ هوى؟ لا يتردد الفرد المدرك قليلاً ليقول: إنه هوى المتبوع الغالب، الذي يحمي فساد ساسة الداخل، الذين يديرون ويرعون، إفساد كل المصالح.

تكراراً
التصويب على السياسة، هو مبتدى كل تصويب، وبعد ذلك تكرّ سبحة المخالفات.. وما أكثرها. إذن، يجب التكرار، إن السلطة الممسكة بمفاتيح قيود البلد، هي سلطة مقيدة بتبعيتها، وهي قادرة على ممارسة تحكمها بدعم وسطوة راعيها الخارجي، أما أدواتها الداخلية، الكفيلة بتحصين سياسات التحاقها، ففيها التضليل الشعاري، والرشوة الزبائنية، والتناهب للمال العام، وتخريب المؤسسات العامة، ووضع اليد على مقومات ومقدرات الكيان العمومية..

وبعد، كيف لمن يعطي القرار السيادي للخارج، أن يرطن بخطاب حماية الداخل؟ وكيف لمن يدير تقاسماً ونهباً، أن ينتفض على رعايته الإدارية؟

الجواب معلوم، ونقطة البدء معروفة: من السياسة أولاً، ومن رأس هرم السيادة والوحدة والاستقلالية.. ليكون الوصول ممكناً إلى دهاليز لصوص المال العام، من العامة، ومن ذوي المقامات، الرفيعة أو.. الوضيعة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024