ما بعد فرنسا.. أو ما بعد حيفا

يوسف بزي

الأربعاء 2020/09/30

انتهى شعار ما بعد حيفا إلى ما بعد خراب بيروت. وإذا كان من المحتمل أن يصير ميناء حيفا هو مرفأ شرق المتوسط والداخل العربي وصولاً إلى موانئ دبي والمنامة، فإن مرفأ بيروت بات على الأرجح أشبه بمرفأ الحديدة في اليمن: بواخر المساعدات الغذائية درءاً للجوع وحسب. ولا شيء يمنع أيضاً من أن يصير بمستقبل منظور كمرفأ مقديشو للقراصنة.

المهم هو أن لا نخضع لإملاءات إيمانويل ماكرون ولا لشروط صندوق النقد.. وبالأخص، عدم السماح بزيادة ضريبة "القيمة المضافة" (TVA)، حسب حرص حسن نصرالله على رفاهية اللبنانيين وكرامتهم.

انتهت المبادرة الفرنسية بدرس بليغ في الديموقراطية، وفي أصول التهذيب أيضاً. فالتجاهل الذي أبداه ماكرون للأكثرية النيابية لا يتسق بتاتاً مع التجربة السياسية المرموقة في لبنان، إن في انتخابات 2005، أو في نتائج صناديق الاقتراع عام 2009 (اسألوا النواب الذي اختبأوا في الفنادق، حين كانت فرق الاغتيال تجوب الشوارع بحثاً عنهم)، وصولاً إلى حقبة تأجيل أي انتخابات وتمديد عمر المجلس النيابي، حتى انصاع الجميع للقانون الذي يريده حزب الله، عن قناعة خالية من أي تهديد أو تخويف أو ترهيب، ثم خصوصاً في التجربة الديموقراطية الرفيعة المستوى على مدى عامين إلى أن توصل نواب الأمة إلى قناعة (وبكل حرية) في انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية.

وبعد خطاب نصرالله المتمهل والصارم في آن، وإذا ما اقتنعنا به سرداً وحجة، يبدو ماكرون نفسه هو الذي أجهض المبادرة الفرنسية وخانها. هكذا أراد الإيحاء لنا حسن نصرالله، ومفوّهو "المنار" الكثر. بل ويبدو أن ماكرون ليس إلا ضحية جديدة من ضحايا فؤاد السنيورة، الشخصية المفضلة عند جمهور الممانعة رمزاً للتآمر على "المقاومة" والمسؤول الأبدي عن ضياع مالية لبنان واقتصاده.

المذهل حقاً، أن نصرالله الذي استاء من شمل حزبه وقادته في تهمة ماكرون للجميع بالفساد، دافع أيضاً عن نظافة كف الرئيس ميشال عون وطاقمه، وكذلك عن "شريكه" الشيعي الرئيس نبيه برّي. ويتسق هذا مع بيان حركة أمل التي رفضت بشدة هكذا اتهامات طالت نوابها ووزاءها ورئيسها وسائر أعضائها من موظفين ومدراء.. إلخ. وكذلك فعل النائب جبران باسيل وتياره. وقد تبين، أنهم جميعاً سبّاقون في طلب الإصلاح ومحاربة الفساد والشفافية. وهذا يدّل أن الفساد اختصاص من كانوا 14 آذار سابقاً وحسب.

منعاً لانحراف المبادرة الفرنسية عن جادة الصواب، ليس على الرئيس ماكرون سوى الإصغاء لنصائح نصرالله، أو على الأقل لمقدمات نشرات أخبار "المنار" المسبوكة منطقاً وحقائق. ومن المستحسن أيضاً مقاطعة رؤساء الحكومة السابقين، الذين خدعوا الإدارة الفرنسية كلها وزوّروا الوقائع، على الرغم من أن نصرالله أبدى تسامحاً كبيراً بدعوته إلى أن يتعاون الجميع بمن فيهم هؤلاء "الخونة".

عملياً، يستحق ماكرون تأنيباً شديداً، طالما أنه تجاهل الثوابت السياسية التي تحكم لبنان، وأولها أن مهمة أي حكومة هي حماية ظهر "المقاومة". وبمعنى أوضح، أن لبنان محكوم "ديموقراطياً" أن يبقى منذوراً لحماية سلاح حزب الله. نظامه السياسي، اقتصاده، علاقاته الدولية والعربية، مستقبله بل وهويته مكرسة كلها خدمة للسلاح.

ونفهم من هذا أن ظهر المقاومة معرض للغدر، ليس من الأعداء الغرباء، بل من "الداخل". شطر كبير من اللبنانيين ميّالون للطعن في ظهر المقاومة. شعب كثير الخونة، كثير العملاء. وبناء على هذه الحقيقة التي لم يفهمها ماكرون، فإن مبادرته "بتراء" و"غير ميثاقية"، ولا تتسق مع مصلحة لبنان.

في الخلاصة، طالما أن فرنسا لا تؤيد بقاء سلاح المقاومة ولا تصطف إلى جانب حزب الله (وبشار الأسد) في الحرب السورية، ولا تلحظ حق الثنائي الشيعي في وزارة المالية وغيرها، ولا تميز بين الفاسدين والنظيفين الشفافين، ولا تحترم الأكثرية النيابية.. فلا خير في مبادرتها، إن لم يتم تعديلها وفق إرشادات المفتي أحمد قبلان .

إنه الدرس نفسه الذي على اللبنانيين فهمه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024