حركة شعبية.. وليست ثورة

أحمد جابر

الجمعة 2020/06/05

أغرى إسم الثورة الجموع التي احتشدت في الشارع، وكانت الكلمة، المشحونة بدفقات معنوية، حضور امتلاء تعويضي عن أفعال امتلاء عملية غائبة. ثم كان أن انسحبت الأجساد الثائرة، وغابت عن فضائها الأصوات الصادحة بمطالبها وباحتجاجها، لكن الغياب والانسحاب لم يأخذا معهما مفردة الثورة، بل إن هذه الأخيرة باتت حاضرة أكثر، كجرعة تعويضية تعزز مناعة التعويض الثوري الأصلي. بناءً عليه، برزت مفارقة عدم المطابقة بين الإسم، أي الثورة، وواقعها، وما كان ممكناً حجبه، والشارع مقيم على هديره، صار سافر الوجه، والشارع مقيم على سكون. والحال، وكي لا تؤدي القراءات المختلفة للمشهد الاعتراضي، إلى الانفصام بين الإسم والواقع، وإلى اتساع الشرخ بين دلالة مفردة الثورة ومعطياتها العملية، وجب استحضار عناصر المشهد الشعبي مجدداً، لقراءة ما كان ممكناً أو غير ممكن في لحظة الابتداء، وللخروج بخلاصات عامة، تعين المشهد ذاته على إضافة جديد إلى يومياته المقبلة. نذكر، وفي صيغة توكيدية، أن قوى الاحتجاج مجبرة على الإطلالة بجديد، وهذا شرط من شروط إعادة وضع قاطرتها على سكة سفر ذي اتجاه واضح، صوب اليوميات الجديدة.

الحركة الشعبية
إعطاء ما بدأ في 17 تشرين الأول من العام الفائت، إسم الحركة الشعبية هو الأكثر مطابقة للواقع. لقد اتخذت الحركة شكل احتشاد مناطقي، وشكل تجمعات مختلطة، من جمعيات متنوعة، ومن أحزاب سياسية "متخفية" مدنياً، ومن جمهور واسع غير منتم إلا للتعبير عن سوء أحواله، ومنحاز إلى ما بدا له من إمكانية تغيير في نمط تحكم النظام الطائفي، الذي شاع عجزه وفساده وانغلاقه على التجديد والتغيير.

مكونات الحركة الشعبية، أي صورة اجتماع شملها في ساحة واحدة، أو في ساحات متباعدة، قدمت قالب الحركة بما هي عليه، فهذه فارقها التنظيم، ولم يكن متاحاً استقرارها على صيغة قيادة جماعية موحدة، وعانى التنسيق والتوافق على حد أدنى مشترك، من "السيلان" الاستنسابي، في الشعار وفي الأسلوب، وفي تحديد الأهداف. كان ذلك من "طبيعة الأشياء"، إذ كيف لحركةٍ ناشئة طرية الممارسة، أن تستوي على قواعد انتظامية سريعة؟ ببساطة، لم يكن ذلك من  حواضر البيت الاعتراضي الشعبي، وتجربة "السكان" حديثة العهد، لذلك كان لابد من القبول بمبدأ التجربة والخطأ في الميدان، والتعامل مع "الخبط عشواء" السياسي، ومع رزمة من شعارية قصوى، ومن تقديس للسلمية وللعنف في يوم ميداني واحد.. هذه اللوحة الواقعية التي تشكلت في يوميات شعبية حافلة، كانت وما زالت مسار مخاض طويل. هذا يعني أنه من الأجدى والأقرب إلى السياسة الصائبة، ملاحظة أن ما في يد الاعتراض اللبناني، يقتصر منذ شهور، وحتى تاريخه، على كتلة مختلطة واسعة متنوعة، كتلة مختلفة ومؤتلفة، كتلة منسجمة ومتنافرة، كتلة مقدمة ومحجمة.. هذه الكتلة إسمها الحركة الشعبية، وهي متحركة، وقد تتقدم حركياً إلى الأمام، وقد يصيبها الانتكاس فترجع خطوات إلى الوراء. على نتائج الحركية، تقدماً أو تراجعاً، أي على تطور الواقع السياسي الميداني وما ينتجه صراعياً، يكون للحركة الشعبية اللبنانية إسمها المطابق لأحوالها وأوضاعها. قد نكون أمام انتفاضة، أو أمام ثورة.. وقد لا نكون.

خلاصة الأمر، أن ما حصله المعترضون في الشارع حتى اليوم، لا يسمح بإعطاء عنوان سياسي من قبيل "الثورة" أو سواها، ففي التسمية منحى رغائبي لا تقره الوقائع، ومنحى قفز في الهواء، يكسر عنق من قفز، من دون أن يفلح في كسر واقع الوقائع.

عناوين وشعارية
النزول المكثف الفجائي إلى الشارع، حضر بعناوين عامة تحمل سمة قصوى، وجرى التعبير عنه بهتافات اجتمع فيها الغضب الواضح وعمومية السياسة. شعار "كلن يعني كلن" كان مثالاً تعميمياً، والانتقال إلى ذكر أسماء مجموعة "كلن"، نقل الاعتراض من التهيب إلى التجرؤ، وبدت الخطوة الانتقالية ضرورية، لتجاوز حاجز الخوف الذي أقامت التشكيلة الحاكمة والمتحكمة خلف أسواره، ووراء أستاره.

على أساس الجملة السياسية، بجمعها وأفرادها، بنيت "استراتيجية وتكتيكات"، ألغت التمييز المطلوب بين شمولية الشعار، وبين تفصيلات السياسة. هكذا صار الأداء الشعبي مجموعة تعميمات، لكل منها هدف عام، ولكل منها شعار عام، فكان أن سيطر شعار " يسقط.. إرحل.."، من دون انتباه إلى أن السقوط والرحيل ما زالا هدفين بعيدي المنال، وذلك لسببين أساسيين. الأول، عدم تفكك عقد النظام الرسمي والأهلي. والثاني، عدم نضوج البديل الشعبي الذي مازال على الدرجة الأولى من سلم مسيرته.

لقد ساد نوع من لغة مناشدة تدعو المتحكمين إلى الاستجابة لدعوة الشارع، وأعربت أصوات عن دهشتها عندما لم يسارع الحاكم إلى هذه الاستجابة. كان في الأمر تبسيطاً وعفوية. والسمتان جرى التعبير عنهما بكلام إقصائي من قبل الشعبيين، فقد توسم أولئك في حركتهم القوة التي تسمح لهم بتوصيف الأحزاب السابقة" الفاشلة"، وبرفض كل ما يصدر عن بعض أطراف "كلن"، حتى ذاك الذي يحمل ما ينعكس إيجاباً على مطالب الحركة الشعبية. هذا يعيد النقاش إلى نقطة معاينة صناعة اليوميات السياسية الشعبية، ومراجعة نمط صياغة كلامها وأساليبها، هذا في صيغة إضافية رجوع صوب السياسة وتفاصيلها، لأنه لا تبلور لسياسة الحركة الشعبية خارج تلك التفاصيل، ولأن الشعارية العائمة، لا يمكن أن تكون بديلا من استيلاد الشعارات الفرعية، أي تلك التي تتناسب وتطور اليوميات السياسية في اعتراضها المستدام.

والآن
لن تستطيع الحركة الشعبية معاودة حركة من النقطة التي بدأت منها، ولا من المحطة التي توقفت فيها. الحركة ملزمة بالبدء من مكان سياسي جديد، أي من خلاصة التجربة التي غطت الزمن الممتد من لحظة البدء حتى لحظة التوقف الاضطراري.

من الجديد الذي يجب أن يكون موضوعا للتداول، الدعوة إلى مغادرة الاستراتيجيات إلى تكتيكاتها. ما يتعلق بوصف النظام العام يدلى به مرة واحدة، ويحضر كدليل تذكيري يواكب كل تحرك تفصيلي، لذلك يصير السؤال ما التفاصيل؟ وهذا يستحضر سؤالا آخر: ما الواقعية في طرح كل مهمة سياسية تفصيلية.

كمساهمة في نقاش المواضيع: موضوع سلاح حزب الله. هذا له عنوان آخر: الخطة الدفاعية، وماذا عن لبنان في سياق الصراع العربي الاسرائيلي الذي مازالت قضاياه مفتوحة.

موضوع أطراف الحكم. ليس من السياسة عدم استغلال ما يبدو من تصدعات وتراخ في قبضة التشكيلة الحاكمة، والسؤال هنا: كيف يستغل ذلك؟ وهذا بديل من شتم هذا الطرف أو ذاك، في عملية إثبات "طهارة ثورية"، يبقى ثوبها ناصع البياض. الواقع يشهد ضد وجود الأثواب السياسية البيضاء.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024