تظاهرات بيروت الناقمة.. أو العفوية "المنظّمة"

وليد حسين

الإثنين 2018/12/24
منذ اللحظة الأولى لتجمّع الناس في ساحة الشهداء، بدت التظاهرة يتيمة، ليس لناحية عدد المشاركين الكثر الذين كانوا بالآلاف، بل لناحية سحب جميع القوى الداعمة لها يدهم منها. في مشهد يدلّ على أن الجميع يريدونها، وحشدوا لها، لكن من دون تبنّ واضح لها. فجميع الأحزاب المشاركة من حزب الله، وحركة أمل، والحزب الشيوعي اللبناني، وحزب الكتائب اللبنانية، إلى حزب سبعة، والتنظيمات اليسارية والقومية الناصرية المجهرية، وملحقات الثامن من آذار، شاركت بكثرة من دون إعلان واضح وصريح للأمر.

إطلاق العنان
على عكس هذه الأحزاب، أعلنت الجهات المدنية التي شاركت في الحراك الشعبي في السنوات الفائتة، صراحة، عدم المشاركة في التظاهرة "الغريبة"، بسبب عدم وضوح الجهات الداعية لها، وعدم وجود قوى منظّمة ترفع شعارات سياسية واضحة، كما أكّد معظم الناشطين لـ"المدن". فالقاعدة الأساسية لإطلاق هذه التظاهرة بُنيت على أساس دعوة الناس إلى الشارع "لقول لا شيء"، كما قال أحد الناشطين المدنيين. بمعنى آخر، البعض عمل على تفريغ التظاهرة من مضمونها الأساسي، أي السياسة، وإطلاق العنان للشارع والشغب. وهذا ما دلّت عليه بيانات الدعوة للتظاهر، محذّرة الناس من التعرّض لأي جهة سياسية مشاركة في الحكم، وخصوصاً حزب الله. 

بدا واضحا منذ اللحظة الأولى لتجمّع الناس في ساحة الشهداء أن هناك "يداً خفية" تريد تحريك الشارع وإحداث الشغب. فبينما كان الجمهور الأكبر المؤلف من المواطنين العاديين الناقمين على تردّي الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية، حضروا مع أطفالهم وعائلاتهم، كانت اليد الخفية تتحضّر لما هو منتظر؛ جعل الشارع ينفلت ومن دون ضوابط. أي بمعنى آخر جعل التظاهرة منظّمة لناحية تحريك الشارع، لكن من دون وجود قوى واضحة تتبنى تنظيمها.

قبضايات الأحياء و"النجمة"
تجمعات صغيرة من عشرات الأفراد تجمهرت في ساحة الشهداء، بين جموع المتظاهرين، راح كل منها يطلق شعاراته الخاصة. منها من يريد "إسقاط النظام" ومنها من يريد "الحكومة هلق" وأخرى تريد "استعادة الأموال المنهوبة" أو "الثورة والغضب"، و"الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية"... وقِس على ذلك. وبينها، كان هناك تجمّعات صغيرة "شللية" لقبضايات الأحياء، كشفت الشعارات الدينية المرسومة على زنودهم، خلفيتهم الطائفية والاجتماعية. إضافة إلى "شلل" الملثمين، بل وحتى مناصري فريق النجمة، الذين بدوا الأكثر تنظيما لناحية العدد والشعارات التي تدعو إلى الشغب.  

في الأيام السابقة للتظاهرة ونظرا لكثرة الأطراف والأشخاص الداعين إليها، وبعد توجيه الدعوة إليها من قبل أشخاص مقربين من حزب الله وحركة أمل وقوى الثامن من آذار، راحت "السترات الزرقاء" تدعو أهل السنّة إلى عدم المشاركة في التظاهرة، التي يريد من خلالها الشيعة والمسيحيين النيل من الرئيس المكلف سعد الحريري، كما كتبت إحدى الصفحات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

تلقف أحد الشبّان، الذي تسلم مكبرات الصوت في ساحة الشهداء، تلك الدعوات المناهضة للتظاهرة من "أهل السنّة"، وراح يصيح بأعلى صوته في تجمعات المتظاهرين: " مش نازلين نسبّ حدن.. شيعة وسنة ومسيحيي بدنا بطاقة صحية".. "يا إخوان بدنا ناكل عنب ما بدنا نقتل الناطور".  لكن حماسته الزائدة "لأهل الجنوب"، والتي بدت عندما راح يبث الحماسة في صدور المشاركين، كشفت عن خلفيته الطائفية رغم محاولاته الجاهدة لنفي الأمر. "مين من الجنوب متلنا جوعانين؟ ردد الجمهور خلفه بصوت هادر: أنا. ولكون صدى الجمهور وهو يردد "أنا" بدا حفيفاً، لدى قوله "مين من بيروت متلنا جوعانين"، قرر الخطيب أنه "لحد هلق أهل الجنوب ربحانين ومحرومين أكثر من غيرهم".

مقابل السراي
فجأة أتى القرار للانتقال إلى ساحة رياض الصلح، فتقاطر آلاف المتجمهرين خلف "اللا أحد". وراحوا يرددون هتافات "الشعب يريد إسقاط النظام"، و"يسقط، يسقط حكم الأزعر". بعد تجمع المتظاهرين في مقابل السراي الحكومي لأكثر من ساعة، كادت التظاهرة تنتهي على خير. لكن بعض الشبّان أبوا ترك الساحة من دون ترك بصماتهم الخاصة، فراحوا يرشقون القوى الأمنية بزجاجات المياه وبالحجارة، التي سقطت جميعها على المتظاهرين وأدت إلى إصابة شخصين بالرأس.

البعض أراد البقاء في ساحة رياض الصلح حتى تحقيق المطالب، التي ورغم كثرتها، لم يعرف منها شيئا. فهل هي اقرار البطاقة الصحية وتخفيض سعر المحروقات؟ كما دلّت إحدى البيانات التي وزّعت. أم هي اسقاط النظام، كما صدحت الحناجر؟ أم هي تشكيل الحكومة؟ كما دلّت بعض اللافتات. أما مكبرات الصوت فقالت الكثير من دون أن تقول أي شيء. كما لو أن الناس تجمّعت لسماع هراء من قرّر تزعمّ المشهد، من على ظهر حافلة مكبرات الصوت لـ"تقبيل أيادي الجميع فردا فردا على تلبية الدعوة"، أو للقول "نحنا هون من جميع الطوائف"، مع التشديد على أن لا خلاف مذهبياً بين المتظاهرين لكون الجميع ينتمون "لشيعة عمر" و"سنّة علي"! هراء كلامي بصوت أجشّ يريد نفي تهمة الطائفية عنه فيكرّسها على الملأ. فما لم يقله هو عن انتمائه المذهبي قالته إحدى اللافتات التي رفعها أحد "المقنّعين" بجانب الحافلة كتب عليها "لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي".

الكر والفر
بدأت التظاهرة بالانفضاض من ساحة رياض الصلح، وظنّت الناس المتجمهرة بأن الأمر قُضي إلى هذا الحد. لكن انفضاض المتظاهرين أدى إلى تنظيم تجمعات كثيرة بين ساحة الشهداء والطريق الممتدة إلى بشارة الخوري. انفلت الشارع وعمد مئات الشبّان والفتيات إلى سلوك الطريق المؤدي إلى الأشرفية عند تقاطع شارع لبنان، فتدخل الجيش اللبناني ورد المتظاهرين إلى شارع بشارة الخوري. أعاد الجيش وفتح الطرقات بعد أن عمد الشبّان على تسكيرها بحاويات النفايات. في الأثناء، عاد المتظاهرون إلى التجمع في ساحة الشهداء وانطلقوا بجموع كبيرة نحو منطقة رأس النبع، على وقع هتافات اسقاط النظام، وعملوا على تكسير بعض زجاجات اللوحات الإعلانية والتعدي على الأملاك العامة في مشهد مريب وسوريالي. إذ تقاطرت الجموع بين الآليات العسكرية للجيش الواقفة تحت الجسر، ولم يمش أمام المتظاهرين إلا دراجة واحدة لقوى الامن الداخلي، كما لو أن هناك رغبة في أن تسير التظاهرة على عواهنها. وبينما عاد جزء كبير منهم ليتجمعوا من جديد في ساحة رياض الصلح، طافت التجمعات الأخرى في شوارع بيروت، في حالة من كرّ وفرّ مع القوى الأمنية. 

"لن نسمح باسقاط العهد في الشارع". "العقدة الحكومية باتت "باسيلية". جملتان عممتاها مصادر القوى المتصارعة على تشكيل الحكومة اليوم. جملتان تختصران إنفلات الشارع، في ظلّ توعّد المتظاهرين بالمزيد من التظاهرات في الأيام المقبلة. فهل من سبب آخر أوضح لجعل التظاهرة يتمية، ولا تجد من يتنبنها، ومتروكة لعبث الأيادي المجهولة الهوية والواضحة المعالم؟   

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024