رسالة إلى "الحاقدين" على ثورة طرابلس

جنى الدهيبي

الخميس 2019/10/31

منذ أن اندلعت الانتفاضة الشعبيّة في لبنان، في 17 تشرين الأول، وأنا أمضي معظم أوقاتي في ساحة النور في طرابلس، وأتنقل بين أهل المدينة وأبناء ضواحيها، في الساحات والشوارع والضواحي. وللأمانة، ثمّة شعورٌ لا يغادرني، وهو أنني أتعرّف على طرابلس من جديد، وهي مدينتي. وكأنّني أسمع أصوات ناسها بآذانٍ مختلفة، وأرى مشاهد انتفاضتها بعيون الدّهشة.

لا رأس ولا قائد
هو احتكاكٌ يوميّ، وفي كلّ يومٍ أتعلم درسًا جديدًا من بسطاء المدينة، من بائعي القهوة والشاي والكعك على العربات، ومن الأطفال المحرومين من أبسط حقوقهم، ومن نساءٍ ورجالٍ لا يملكون كلفة علبة "البانادول"، ومن شبابٍ وشاباتٍ لا يطالبون سوى بفرصة عمل للعيش بكرامة. وأيضًا، أخرج بخلاصات من خارج صندوق الأحكام المسبقة، والاتهامات البغيضة المعلّبة، التي يبثّ سمومها الحاقدون والكارهون للثورة والثّوار. وكحال مختلف الساحات المنتفضة في لبنان، شكّلت طرابلس ثورتها من دون "رأسٍ" ولا "قائد"، وربما هذه ميزة وليست مذمّة يطلقها هؤلاء أنفسهم الحاقدون والكارهون. ولبنان، الذي تشهد مدنه وبلداته على تحطيم نظرية الرؤوس والقادة في الثورات الشعبية، تولت "الشوارع" والساحات فيه هذه المهمة، أن تكون هي القائدة والرأس، من دون متربصٍ ولا متسلقٍ ولا طامعٍ يستثمر بمكرٍ صرخات الثائرين والثائرات، الذين كسروا لأول مرّةٍ رمزية الزعامات وقدسيّة الطوائف.

كتف بكتف
نعم، لم نبالغ بالقول عندما وصفنا طرابلس بـ"عروسة الثورة" وجوهرتها. ليلة الأربعاء 30 تشرين الأول، جاء صديقي الآتي من بيروت لزيارة المدينة في ثورتها، وللصدفة، أحيّتْ ليلةً مجيدة بكل أهل المدينة، أدهشتنا جميعًا كردٍّ على محاولات فتح الطرق والتعتيم الإعلامي، فعلّق قائلًا: "طرابلس تصلح للسياحة الثورية"، وهي كذلك.

أسيرُ، كحال كثيرين وكثيرات، بين ثوّار طرابلس الذي يتراصفون كتفًا لكتفٍ في الساحة، ويجلسون للتسامر على جنباتها. مبنى الغندور العملاق، تحوّل لشاهدٍ على الثورة في طرابلس، بعد أن طُليَ بالعلم اللبناني وأرزته.

أيها الحاقدون، دعونا نذكركم بالشعارات التي كُتبت عليه بالخطّ العريض: "شكرًا للجيش والقوى الأمن الداخلي"، "طرابلس مدينة الحريّة والعيش المشترك"، وكُتب اليوم على الجانب المطلّ على الساحة، بخطٍّ عريضٍ أيضًا: "طرابلس مدينة السلام".  أمّا أجمل اليافطات التي تتدلى من هذا المبنى المهجور، وهو كان من المفترض أن يكون فندقًا بخمس نجوم (لكنّ فسادهم عرقل المشروع)، هي التي حملت شعار: "نطالب بدولة مدنية ذات عدالة اجتماعية".

هذا باختصار، لأنّ سرديات مشاهد الثورة الاستثنائية في طرابلس لا تنتهي، لكن بعض الإشارات تنفع كمقدمة لتوضيحات ضرورية لا بدّ منها.

مروّجو الطائفية
خلال الأيام التي تلت تاريخ 17 تشرين، وتحديدًا بعد أن أعلن الرئيس سعد الحريري استقالة حكومته، سعى كثيرون من أتباع السلطة وأحزابها الحاقدة على "الثورة"، بل وعلى المدينة، عبر رموزها و"صحافييها" وناشطيها، لترويج "دعاية" عودة الخطاب الطائفي والتحريض المذهبي إلى طرابلس. ومن دون خجلٍ، بدأوا يطلقون رصاصتهم على الانتفاضة الطرابلسية، عبر تلويث سمعتها، بأنّ السُّعار الطائفي بدأ يستشري في المدنية كردٍّ رافضٍ لاستقالة الحريري، علمًا أن استقالة الحكومة كانت أول مطلب شعبي لأهالي المدينة! وطبعًا، سعى هؤلاء أنفسهم للاستثمار بالإشكالات التي وقعت في البداوي والعبدة بين المتظاهرين والجيش، ومع العلم أيضًا أنّ أبناء هذه المناطق درأوا أي محاولات لإيقاع فتنة بينهم وبين الجيش، ورفضوا الانصياع لسيناريوهات السنوات السابقة، فهتفوا بصوتٍ واحدٍ نصرةً للجيش اللبناني.

قرأتُ كثيرًا من "البوستات" والتعليقات التي تصرّ على وصم طرابلس بالطائفية المتجذرة، وأنّ المدينة متقوقعة لقعرٍ يصعب انتشالها منه، وأنّ كلّ ما يُحكى عن ثورتها، وقد وصل صيتها إلى الصحف العالمية، هو زيف انكشف مع استقالة الحريري!

بالأمس تحديدًا، وصلتني عشرات الرسائل من خارج المدينة، تطرح تساؤلات للاستفسار مثلًا عن: هل صحيح أن الإسلاميين يقودون الشارع في طرابلس؟ هل أشرف ريفي يمولها؟ هل فعلًا يهتف الطرابلسيون للسنة والشيخ سعد؟ هل بدأ التحريض الطائفي يتوغل في المدينة؟ وغيرها الكثير من الاستفسارات النابعة من إشاعة أجواءٍ ملفقة لا تمتّ للواقع بصلة.

وقائع الأرض والميدان
لذا، ولأنني في الشارع طوال الوقت، وانطلاقًا من ضميري المهني المنحاز للناس فقط دون سواهم، هناك بعض النقاط التي أرغب بتوضيحها للمتعامين عن الحقائق، وهي ليست إلا وقائع على الأرض في طرابلس يمكن أن يراها بوضوحٍ من دون عناءٍ كلّ باحثٍ عن الحقيقة:

- من اليوم الأول للانتفاضة الشعبية، نزل أبناء طرابلس ومزقوا صور زعاماتهم من دون تردد. وحتّى النائب السابق مصباح الأحدب، ورغم أنّه ليس جزءًا من السلطة، لم يسمح له المتظاهرون بالانضمام إلى ساحتهم، وطردوه.

- كلّ ما يحدث في طرابلس، وخصوصًا على مستوى الحشود الغفيرة طوال أيام الانتفاضة، يجري بدعوات عفوية، عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومكبرات الصوت التي تجوب المدينة، ومن خلال المسيرات الطلابية والشبابية، ولم تتجرأ أي جهة سياسية رسمية أن تنزل إلى الشارع بصفتها الحزبية، بعد أن أدركت أن لا مكان لها بين المتظاهرين.

- في الأيام الأولى للانتفاضة، اطلق الطرابلسيون هتافاتهم المنددة بقيادات المدينة وزعماتها قبل غيرهم، وحتّى ضدّ الرئيس الحريري، قبل أن يصرخوا ضدّ العهد والمنظومة السياسية الحاكمة في البلد.

- استطاعت طرابلس في هذه الانتفاضة، أن تشكل شبكة أمانها، سلميًا وحتّى صحيًا، فكانت المدينة الوحيدة التي لديها "جيش" (مدني طبعاً) من الشباب المتطوعين في "حراس المدينة"، إلى جانب مستشفى ميداني في الساحة، تابع للجمعية الطبية الإسلامية، فيه عشرات الممرضين والممرضات الذين تطوعوا للقيام بإسعاف الحالات الصحية والجرحى في التظاهرة.

- بعد أن تصاعدت حدّة الإشكالات في صور والنبيطة ومناطق الجنوب، كسرت طرابلس كل حواجزها مع الآخر، ورفعت يافطة "يا حسين" تضامنًا مع أهالي النبطية، وهتفت دعمًا لجلّ الديب، وصدحت بالفم الملآن: "يا نبطية، طرابلس معاكي للموت.. يا صور، طرابلس معاكي للموت.. ويا بيروت، طرابلس معاكي للموت"...

- بعد استقالة الرئيس الحريري، صحيح أنّه لقي تعاطفًا في طرابلس، لكنّ ما لبث أن تبدد بعد ساعاتٍ قليلة من الاستقالة. فعاد الطرابلسيون إلى الشارع وهتفوا "كلن يعني كلن"، ولم تترك ساحة النور أيّ مجالٍ لرفع علم حزبي غير العلم اللبناني، وبقيت الشعارات في إطار التنديد بالطبقة السياسية كاملة.

- البعض يحكي عن شواذات و"زعرنات" تحدث في ساحة النور. لكن، بعيدًا عن منطق قياس نسبة حضور هؤلاء أمام المدّ الشعبي بالآلاف، ثمّة وعيٌ ضمنيّ لدى الجميع بإدراك هوية الجهات السياسية و"الأمنية" التي تحمي هؤلاء "الزعران" وتؤمن الغطاء لهم، ويوماً بعد آخر تتضاءل قدرتهم على التأثير بسبب التفاف أبناء المدينة على بعضهم البعض.

- أمّا لدى السؤال عن الأحزاب السياسية الحاضرة في ثورة طرابلس، فجولة بسيطة كفيلة لتوضح أنّه لا يوجد أيّ تحرك منظّم حزبيًا. وإذا كان الحاضرون يضمون إلى صفوفهم أفرادًا من مختلف الأحزاب والتيارات والانتماءات والطوائف، فهذا لأنّ المجتمع الطرابلسي، كحال المجتمع اللبناني، يتشكل من هؤلاء الأفراد والجماعات. لكنّ المفارقة، أنّه لدى نزولهم إلى الشارع، نفضوا عن أنفسهم غبار الأحزاب، ولو مرحليًا، ونزلوا بصفتهم الطرابلسية والوطنية وليس السياسية، وبصفتهم جزءًا لا يتجزأ من أبناء هذه المدينة المظلومة وليس لكونهم أتباعًا لدى الأحزاب السياسية.

- أمّا عن غلبة الكفّة لصالح التيارات الإسلامية، فأجواء المدينة وما يُنقل عنها كفيل بنفي هذا الانطباع. وساحة النور، كانت ساحة رحبة لأول مرّة ضمن هذا الفضاء الثوري، لجميع أبنائها، إسلاميين وغير إسلاميين.

- لا شكّ أنّ "خطاب الثورة" يحتاج لتوجيهٍ في طرابلس. وإذا طرأ عليه بعض الشوائب، فهذا ليس عيبًا، وإنّما هو جزء من مسار طويل سيطرأ عليه الكثير من التعديلات، لأنّ الطريق لا يزال في أوله، والثورة الشعبية لا تزال في طور نموها!

طرابلس الحضن
ولكن، ألم يرَ هؤلاء المصطادون بالماء العكر، الحلقات الحوارية التي تعقد في طرابلس طوال الليل والنهار على جانب الساحة، ويديرها شباب وأساتذة جامعيون يبذلون قصارى جهدهم لإنجاح الثورة الشعبية وتصويب مسارها؟

قد يكون الكلام باكرًا لأوانه. لكنّ الأكيد، أنّ هذه الثورة التي تشهدها في طرابلس، ليست سياسية واقتصادية وحسب، وإنما هي ثورة لإعادة صوغ وتنظيم نسيجها الاجتماعي من جديد، بعد أن حطم أبناء المدينة جميع الحواجز، الاجتماعية والطبقية والمذهبية. وبعيدًا عن أجواء المشاحنات الخطرة في بيروت، قد تكون طرابلس، هي حارسة الثورة في لبنان، والحاضنة لكلّ معارضي النظام، من مختلف أحزابهم وطوائفهم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024