غواية طوفان نوح.. الرغبة بتعقيم الأرض

يوسف بزي

الجمعة 2020/03/20

تحتل قصة نوح مكانة مركزية في الوعي التوراتي. تنظيف الأرض من خطاياها، شطفها وتعقيمها، وتخليصها من القذارة والفوضى. والأهم، البداية الجديدة. الناجون المصطفون الذين معهم تبدأ حياة أفضل وأكثر انسجاماً ووئاماً.

تغوينا على الدوام فكرة الطوفان والبداية الجديدة.


بقدر ما نخاف الموت والفناء، نخاف أيضاً من هذا الاكتظاظ البشري والنمو السكاني الذي يستنفد موارد الأرض والطبيعة. القلق الذي عبّر عنه توماس مالتوس بنظريته عن التكاثر السكاني، كانت نابعة من ذاك الخوف القديم من الجوع الشامل وانهيار الحضارة وانقراض البشر، ومن عدم التناسب بين انتاج الغذاء والكثافة السكانية المتزايدة. وهو رغم كل معتقداته الأخلاقية، عوّل لحلّ هذه المعضلة، على ما أسماه "تدخل العوامل الخارجية"، تلطيفاً لتسمية الحروب والمجاعات والأوبئة والأمراض، التي تتكفل بكبح جماح هذا النمو الكبير للسكان. الخواف من فقدان السيطرة على الموارد والفزع من الشح، وخسارة الأمن الغذائي، متأصل في وعينا البدائي.


ليس المهدويون الإيرانيون الذين دعوا إلى ترك فيروس "كورونا" يفعل فعله هلاكاً وفتكاً بالبشر، تسريعاً بمجيء الإمام المنتظر، وحدهم من لديهم هذه النزعة. فكل ديانة كبرى لديها "فرقة متطرفة" مشغوفة بدنو الساعة، بتعجيل ظهور المخلص، ليحل العدل في الأرض التي يرثها المؤمنون.

وليس المتدينون فقط من لديهم هذه النزعة القيامية. فبعض التيارات "البيئية" (الأيكولوجية) شغوف بخيال ثأر الطبيعة من البشر، إنزال كارثة كبرى فيهم، كي تستعيد توازنها.


أبعد من ذلك، الأيديولوجيات الشمولية، العلموية النزعة، "الحداثوية"، لا تخلو من رغبة بقيامة تطهيرية، تحفزها أفكار مشابهة لطروحات مالتوس، وطموحات بـ"مجتمع صحي" ومنتج: التخلص من كبار السن، "المعاقين"، المجانين، والمرضى. عدا عن التخلص من "الأعراق المنحطة" (كل الأغيار تقريباً). وكل التيارات العنصرية تكمن فيها نزعة إلى الإبادة، إلى طوفان تطهيري يستثني الجماعة الناجية المتفوقة، أو ما يسمى بـ"الحل النهائي".


في القرن العشرين، كانت فكرة المحرقة النووية غير غائبة عن بال بعض المتعصبين في المعسكرين الرأسمالي والشيوعي. حضور "الحل النهائي" كان احتمالاً وارداً في أي لحظة.

بهذا المعنى، غواية طوفان نوح والبداية الجديدة، أو إعادة التأسيس، لم تفارق عقلنا على الرغم من تمسكنا عموماً بالفضائل الإنسانية وبحرصنا على الحياة البشرية وتقديسنا لها، ونفورنا من الموت.. ورعبنا من الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية.


ليست مزاحاً صرفاً تلك الدعوة لمجيء النيزك، أو لاستذكار مصير الديناصورات. فثمة جاذبية شريرة في صور المدن الفارغة والخلاء المهيب للطرقات والسكون المهيمن على الأرض وفي السموات. بل ثمة شيء من جمال الهدوء والبطء القسري الذي حل على حركة العالم، خمود ذاك الإيقاع اللاهث الذي كان يغلب على يوميات سكان الأرض.

انتظار النيزك، أو تخيل كورونا وقد قضى على العدد الأعظم من الناس، يعبّر عن القلق الأكثر تأصلاً في جيناتنا، لكنه في الوقت نفسه هو "حلم" بصفر تجديدي. بداية نقية مسبوقة بنهاية العالم القديم. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024