روسيا "الناعمة" في لبنان بصحبة حزب الله

منير الربيع

الثلاثاء 2019/01/08
في ذكرى مئة عام على إعلان الهدنة بالحرب العالمية الأولى، في 11 تشرين الثاني الماضي، التقى رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لعشر دقائق، وقوفاً. بعد هذه المحادثة، شاعت أجواء في لبنان عن قرب تأليف الحكومة، وإنهاء العقبات بما يرضي رغبة الحريري. وجرى الحديث عندها عن مسعى روسي لدى إيران والنظام السوري، لفك أسر الحكومة اللبنانية. ويوم وُجدت صيغة لتمثيل نواب سنة 8 آذار بطرح إسم جواد عدرا، تكرر الكلام باستفاضة عن أن المساعي الروسية أتت ثمارها، وأدت إلى إنهاء الأزمة الحكومية. ساعات قليلة، وفشل المسعى. وعادت الأمور إلى ما تحت الصفر.

الخفة السياسية
في المشهد بعض من السوريالية. رئيس لبناني يقنع رئيس روسيا بعشر دقائق، بانتهاج مسار سياسي، فتتدخل الدولة العظمى لدى دول إقليمية لإقناعها بتغيير سياستها، واتخاذ قرارات مغايرة لما كانت ترسمه. لكن، بأقل من أربع وعشرين ساعة، تتبدّل المعطيات، وتنقلب الدول "الصغيرة" على الدولة العظمى، فتتعرقل عملية تشكيل الحكومة. لأن إيران وسوريا تمسكتا بموقفهما من تشكيل الحكومة اللبنانية، الذي يتعارض مع الموقف الروسي.

في هذا المثل، تعبير عن خفّة سياسية، وقراءة سطحية لحقيقة الأمور. كمثل رهان الحريري الدائم على صداقته مع بوتين، واستثمارها في السياسة وفي توفير الحماية من النظام السوري، أو حتى في تعبيد طريق لبنان إلى إعادة إعمار سوريا. وكان الحريري في العام 2017، قد أجرى زيارة إلى موسكو، تركز البحث فيها على سبل تأمين موسكو الدورَ اللبناني في إعادة الإعمار، في ظل العلاقة السيئة بين الحريري وبشار الأسد. هذه مؤشر على جانب آخر من الخفة اللبنانية في التعاطي مع الملفات الدولية. على غرار تعاطي الحريري، ولبنان عموماً، مع المبادرة الروسية لإعادة اللاجئين، والتي لم تصل إلى أي مكان. لكن الإندفاعة اللبنانية كانت مرتبطة بمنطق المقايضة يومها، نسير بمبادرة موسكو، مقابل أن تفتح لنا أبواب إعادة الإعمار في سوريا.

معادلة السراب
وما يعانيه الحريري، يعانيه العرب مجتمعين في رهانهم على دور روسي، لتحجيم نفوذ إيران في سوريا. المعادلة لا تتعدى كونها سراباً، لا تُبنى على أي أفق واقعي. وليس تبنّيها سوى تعبير عن العجز والتسليم بما يرسم، والتلكؤ عن وضع فكرة، ولو كانت بسيطة، لتوفير حضور عربي على الساحات العربية. فتارة يكون الرهان على روسيا، وتارة أخرى على أميركا، وأطواراً على الوضع الداخلي في إيران.

ولأن الأيام تمثّل خير محكمة، فلا يطول مرورها إلا وتبرز مواقف، تبدد كل الأوهام التي يرتكز إليها بعض اللبنانيين، وبعض العرب. تماماً كما حصل في تدبيجة جواد عدرا، التي أطاحت بجبل من الأوهام حول الضغط الروسي على سوريا وإيران، لتشكيل حكومة كما يريد سعد الحريري.

الموقف الروسي
موقف السفير الروسي ألكسندر زاسبيكين قبل يومين، حمل مؤشراً لافتاً حول آلية تعاطي موسكو مع الملفات المطروحة على الساحة. قال: "يزعمون أن حزب الله يعقد تشكيل الحكومة، وهذا غير صحيح على الإطلاق. هذه دعاية سخيفة جداً، ولا أعتقد ذلك على الإطلاق".

كان بإمكان زاسبيكين، أن يلجأ إلى الإجابة الديبلوماسية، بأن مسألة تشكيل الحكومة هي شأن داخلي لبناني، وموسكو لا تتدخّل فيه. لكن الجواب الذي جاء على لسانه، يؤشر إلى تعمّد في إطلاقه. ويوضح رغبة روسية في لعب دور على الساحة اللبنانية. وبالتالي، لا يمكن لروسيا أن تلعب دوراً في لبنان من دون اتخاذ أي موقف معلن. وهو يجب أن يكون إلى جانب حزب الله كقوة مسيطرة، للاضطلاع بالدور المراد لعبه لبنانياً.

لبنان أصبح واقعاً في يد حزب الله وإيران. وأي قراءة أخرى هي قراءة خاطئة. الدليل على ذلك، هو أن الزخم العربي على قلّته، غائب كلياً عن لبنان، ولا وجود لأي استراتيجية أو خطة عمل عربية في لبنان، وهذا يعكس مدى التراجع في موازين القوى. "استقالة" الحريري من الرياض، كانت محاولة لبلورة دور معين، لكنها تُرجمت خطأ ونُفذت برداءة. بعدها، جاء التراجع الكامل لأي مشروع عربي في الساحة اللبنانية. الأمر نفسه ينسحب على الساحة السورية. إذ يتبدّى المشهد وكأن العرب هم خارجه كلياً، ويستندون إلى تنفيذ مشروعات روسية أو أميركية، من دون وجود سياسة عربية واضحة. يمثّل العرب فقط مظلة لنفوذ الدول، تارة النفوذ الروسي، وطوراً النفوذ أميركي.

التدخل الناعم
قد لا يكون الموقف الروسي منحازاً لحزب الله على حساب المشروع الآخر، لان ليس هناك مشروع آخر. وبالتالي فإن التدخل الروسي إذا ما أريد له أن يكون فاعلاً، يجب أن يرتكز على قوة وفعالية حزب الله في لبنان. وهذا يقتضي تماهياً بين الطرفين، بمعزل عما إذا حصل اختلاف في مرحلة لاحقة.. خصوصاً أن الغطاء الدولي والإقليمي لنفوذ حزب الله في لبنان متوفر. والدليل على ذلك، لو لم يكن هناك تسليم بدور حزب الله، لكان شهد لبنان ممارسات وإجراءات دولية وإقليمية تهزّ هذا الواقع القائم، سواء اقتصادياً ومالياً، أو سياسياً وأمنياً. حقيقة هذا التعايش مع نفوذ حزب الله تتلاقى مع مناخ واسع وشامل في لجم إسرائيل عن القيام بتوجيه أي ضربة داخل الأراضي اللبنانية، واقتصار حملاتها الإعلامية على تظهير حزب الله قوة قاهرة، بمقابل (أو بشرط) تأمين الحدود وحمايتها، والالتزام بالتوازنات الدولية المفروضة، لإبقاء الهدوء مسيطراً. وهذه لا يوفرها إلا حزب الله، الذي يحصل مقابلها على التسليم بدوره المطلق في لبنان.

وإذا كان الدخول الروسي خشناً في سوريا، فربما يشهد لبنان دخولاً روسياً ناعماً، يرتكز على جملة ملفات، قادرة موسكو على مواكبتها، من ملف اللاجئين، إلى ملف الحدود والنفط، وإعادة إعمار سوريا. في كل هذه الملفات، لا تقف روسيا عند رغبة الأفرقاء اللبنانية، بل عند ما يتوافق مع مصلحتها، وتقاطعها مع قوى فاعلة على الأرض، إسرائيلية وإيرانية، تحت مظلّة أميركية، يتسرّب من تحتها الهواء على العرب.   
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024