في لبنان: نظرية نقاء عمالي

أحمد جابر

السبت 2019/08/10

طرح قضية اليد العاملة الأجنبية في لبنان ليس غريباً عن أدبيات الاقتصادات العالمية، واستحضار المزاحمة الأجنبية لليد العاملة المحلية يزدهر بيانه إبّان الأزمات الاجتماعية والاقتصادية بشكل لافت، بعد أن يكون موضع كتمان من قبل أصحاب الرساميل الصناعية والزراعية الذين يستفيدون استفادة واضحة من حاجة "الأجنبي" للعمل، فيشترون قوة عمله، بسعر لا يرقى إلى ما هو مطروح في سوق العمل المأجور من أسعار.

المناسباتية تجعل التطرق إلى اليد العاملة الأجنبية استنسابياً، هذا في بلاد العالم، وفي لبنان الذي دخل راهناً على خط الاستنساب، بعد أن بلغت الأزمة الاقتصادية الاجتماعية حدوداً بالغة الخطورة، ما بات يهدد استقامة العمل الإنتاجي، والأوضاع النقدية، وإمكانية الخروج من المأزق من خلال عملية إنقاذية شاملة.

الفلسطيني استنساب إشكالي
لا يمكن وضع اليد العاملة الفلسطينية في دائرة منافسة اليد العاملة اللبنانية بسهولة، ولا يمكن التهرب من تعيين مجالات المنافسة في الزراعة والصناعة والتجارة وتقديم الخدمات، ليكون متاحاً، بناءً على هذا التعيين الملموس، طرح الإجراءات الملموسة التي تحدّ فعلاً من المنافسة، وتوفر حقيقة فرص عمل إضافية لأعداد من اللبنانيين العاطلين من العمل، وتحدد بعد هذا الإجراء وذاك، حاجات السوق اللبنانية إلى أنواع الأعمال الشاغرة الفائضة، وإلى الأعداد اللازمة لملء هذا الشغور.

من المعاينة، الفلسطيني مقصي سلفاً من سوق العمل بموجب قرارات اتخذتها حكومات سابقة أيام الوصاية السورية، أي أنه خارج المنافسة الممنوع عليه دخول ميدانها. الفلسطيني أيضاً يتقاضى ذات الأجور التي يتقاضاها اللبناني، إذن لا منافسة على هذا الصعيد أيضاً، ولا يقارن العامل الفلسطيني في هذا المجال بالعامل السوري الذي يتقاضى بدلاً أقل، ويتولى تدبير يومياته المعيشية بكلفة أدنى، بسبب من حرية حركته بين بلده الأصلي، سوريا، وبلد عمله، لبنان.

مما ورد، ومن أمثلة كثيرة يمكن سوقها كأدلة معاكسة، يمكن القول أن الإجراءات بحق الفلسطينيين المقيمين كانت إستنساباً إشكالياً، فهي لا تعالج مشكلة ملموسة في الاقتصاد، وهي تجرّ النقاش إلى ميدان السياسة اللبنانية المعتمدة حيال الفلسطينيين، ولا يخفى أن هذه السياسة كانت سابقاً، وما زالت حالياً، سياسة إشكالية لأن الأمر يدخل إلى نقاش مسألة الكتلة الشعبية الفلسطينية من مدخل اقتصادي موارب، في الوقت الذي يتطلب الوضع الفلسطيني المخاطبة الواضحة المباشرة، ومن دون أي التباس.

أين النقاش؟
أوضاع اليد العاملة عموماً، المحلي منها والأجنبي، تشكل جزءاً من الخطة الاقتصادية العامة للدولة، كل دولة، والحال أن لبنان يفتقر إلى خطة اقتصادية تبدأ من نقطة تخطيط وتنتهي عند نقطة عائدات ملموسة. إذن السؤال الأول: ما الخطة العامة التي أملت على وزير العمل اللبناني طرح ما طرحه؟ اقتصار الجواب على مسألة توفير فرص العمل يجعل الجواب مبتوراً وغير ذي موضوع، خاصة إذا كان البلد كله في حالة بطالة واسعة، وفي وضعية ركود اقتصادي خانق، انعكس إقفالاً لمؤسسات ومصانع ومحلات تجارية، ومعاناة يومية لمن ما زال قادراً على الوقوف في ساحة الانتظار. خلاصة القول: لا عمل يتنافس عليه المتنافسون، وعندما يتعلق الأمر بالعامل الفلسطيني يمكن القول ببساطة أنه يشاطر اللبناني بطالته فقط، ويتقدم عليه في هذا المضمار.

نقطة أخرى على جدول النقاش المطلوب، وهذه تتعلق بتأهيل اليد العاملة اللبنانية ورفع كفاءتها ودرجة مهارتها. والسؤال، ما خطة الحكومة في هذا المجال؟ وما رؤيتها "لمكننة" اليد العاملة في ظل مكننة الزراعة مثلاً وتصنيعها، وفي ظل رفع كفاءة الكادر البشري بالتوازي مع تنويع الموارد الصناعية والزراعية، وجعلها ذات قدرة تنافسية خارجياً، وفي المتناول محلياً؟ إن من شأن هكذا إجراءات الانتقال بالنقاش إلى مكان آخر انطلاقاً من سؤال: ما حاجة السوق إلى اليد العاملة غير الماهرة؟ وكيف تنظم أوضاعها؟ وكيف تكون الأولوية للعامل الفلسطيني الذي ولد في لبنان وشبَّ فيه. وعمل على أرضه وصرف مدّخراته في أسواقه، وسيكون في ترابه في نهاية المطاف. التمييز هنا واضح ولا حاجة لشرحه، فالفلسطيني بمثابة المقيم إقامة طويلة، وهو كذلك، إذن ما واجبات وحقوق هذا المقيم الذي لا يحمل الجنسية اللبنانية، ولا يهدد توازنات حملة "الدم الأزرق" من الفينيقيين وغير الفينيقيين.

خلاصة غير اقتصادية
النقاش الاقتصادي لا يحجب حقيقة المواقف السياسية لأصحابها، هو نقاش قديم، وسيظل نقاشاً مستداماً، وكي لا يشحن الوضع بمزيد من عوامل الاحتقان يتوجب على الحكومة اللبنانية، الحالية ومن يأتي بعدها، الكفّ عن التشاطر اللبناني عند دخولها إلى "سوق التجارة" الفلسطينية. من جهة أخرى، على الفلسطينيين التنبه إلى عدم جرّهم إلى ممارسات شعارية لها أغراضها من قبل أطراف فلسطينية تقتصر فلسطينيتها على "الهوية"، فمن يعمد إلى شحن الأجواء من خلال استغلال مشاعر الغضب الشعبي، يخفي مآرب سياسية تسعى إلى تلميع صورته الوطنية الفلسطينية بعد أن شوهتها سياساته داخل فلسطين وخارجها، وذات أصحاب المآرب ينطقون عن "وحي يوحى"، عمل وما زال في ميدان تخريب المصالح الفلسطينية. لقد قالت القيادة الفلسطينية كلمتها الهادئة في هذا المجال، وعلى ذات منوال الهدوء يجب استكمال تصحيح نسج ثوب العلاقة اللبنانية الفلسطينية، من مدخل اليد العاملة، ومن مدخل الحقوق والواجبات المتبادلة بين لبنان وفلسطين... فلسطين الفلسطينية قولاً وفعلاً، والتي يتطلب دعمها اختلاطاً مبتكراً لا توفره نظرية "النقاء" العمالي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024