انتخابات طرابلس و"المستقبل": أهزوجة مواجهة حزب الله

جنى الدهيبي

الإثنين 2019/04/01

قد تختصر الانتخابات الفرعيّة في طرابلس، على بهوتها وربما شحوبها، مشهد الطائفة السنيّة بأكمله في لبنان. ليس هامشياً كلّ ما يحدث في هذه المدينة "المنفيّة"، التي لا يُفوت وجهاؤها وسياسيوها فرصة لإفراغها من العمق الحقيقي للقبها المُدني كـ"عاصمة لبنان الثانية". هو امتدادٌ لنهجٍ ظهرتْ معالمه في انتخابات أيار 2018. لا بديل من هذا الخطاب. أو بالأحرى، لا بديل من تلك "الأدوات الهزيلة" في إدارة حملةٍ انتخابية، وكأن استرجاع المقعد النيابي المفقود بطعنٍ دستوري، كفيل أن يقلب موازين القوى في البلد لصالح هذا الفريق.

التهمة الجاهزة
في انتخاب أيار 2018، كانت ذريعة إدارتها بتلك "الأدوات الهزيلة"، مبررًا إلى حدٍّ ما، أقلّه أمام القاعدة الشعبية لـ"تيار المستقبل". الخصوم الحقيقيون (الفعليون) للائحة "المستقبل" في ذلك الوقت، كانوا كلّ من لائحة "العزم"، برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، لائحة "لبنان السيادة"، برئاسة اللواء أشرف ريفي، ولائحة "الكرامة الوطنية"، برئاسة النائب فيصل كرامي. حينها، خاض التيار الأزرق بزعامة رئيس الحكومة سعد الحريري معركة انتخابية ضارية، مع خصومه "السّنة" على أرضهم وفي منطقتهم. استعمل كلّ "أسلحته" لمواجهة خصومه في طرابلس، باستثناء سلاح الهجوم بـ"المشروع السياسي"، لأنّه لم يتوفر أصلًا. كان هجومه محصورًا بمنطق الدفاع القائم على ردود فعلٍ شعبوية وحسب. أوحى مجاهرًا أنّ ثمّة مؤامرة كونيّة تُحاك ضدّه، لضربه في الشارع السّني. روّج لفكرة هذه المؤامرة على قاعدة "ليس بريئًا أن يتشارك جميعهم على خصومة الحريري ومحاربته سنيًا". كانت التُهمة جاهزة سلفًا: خصوم "المستقبل" في طرابلس، إمّا يخدمون مشروع حزب الله، وإمّا هم أدوات لتمدده. وعلى أساس هذه التهمة، أطلق التيار شعاراته الانتخابية، واستنهض شارعه "النائم"، ووعده بـ 999 ألف وظيفة، لدرجةٍ بدتْ حملته الانتخابية في طرابلس كأنّها "معركة تحرير" من هيمنة الحزب ومن أتون الفقر معًا. 

الحصاد الهزيل
لم تأتِ النتائج على ما اشتهى "المستقبل"، رغم شراسة خطابه الشعبوي والمال السياسي، بل ورغم تكريسه إمكانات السلطة والأمن خدمةً لحملته. كانت الهزيمة مدويّة سنيًا في طرابلس: ميقاتي يفوز بأربعة مقاعد وينال 21 ألف صوت سنّي طرابلسي منفردًا، كرامي يفوز بمقعدين والمستقبل بخمسة مقاعد (ثلاثة مقاعد في طرابلس، من ضمنهم مقعد المرشحة المطعون بنيايتها ديما جمالي). حتّى ريفي الذي خسر الانتخابات، بعد أن خاضها خارج عباءة الحريري، وكان مناوئًا لحزب الله، اعتبر "المستقبل" أنّ ترشحه خدم الحزب وساهم في فوز كرامي! وحتمًا، هزالة تبرير الخسارة في الانتخابات، تفوّقت على هزالة إدارة حملتهم الانتخابية.

مضى على الانتخابات 11 شهرًا. فور انتهائها، سارع ميقاتي للوقوف إلى جانب الحريري، منذ تكليفه تشكيل الحكومة إلى ما بعد تأليفها، وحتّى اليوم. انطلق بوقوفه من مبدأ الدفاع عن "صلاحيات رئاسة الحكومة"، ربما لأنّ ميقاتي انتقل إلى مرحلة "تسليف" الحريري. إذ لم يعد بحاجة إلى مخاصمته، بعد أن حقق زعامته في طرابلس، وقد منحه الحريري حقيبة وزارية من حصته في الحكومة. لاحقًا، وبعد أن أعلن المجلس الدستوري قراره بقبول طعن مرشح "جمعية المشاريع"، طه ناجي، بنيابة ديما جمالي، عاد "تيار المستقبل" مستنفرًا قواه في طرابلس لاسترجاع المقعد بترشيح جمالي مجدداً، واستمر بمنطق "المؤامرة الكونيّة" نفسها، واصفًا قرار الطعن بـ"الغدر السياسي".

منطق الاستخفاف
لكن، ماذا بقي من ذرائع "المؤامرة الكونيّة" في انتخابات طرابلس الفرعيّة بعد أن انتفت أسباب وجودها؟ عمليًا، يخوض "المستقبل" حملة مرشحته جمالي، على المعقد السني الخامس في طرابلس، ضدّ مرشحين معارضين أو مستقلين من المجتمع المدني. ومع ذلك، لا يعترف بوجودهم، ويتعاطى مع ترشحهم كأنّهم "ذبابٌ"، يشوشون صفاء ذهنه ليس أكثر. لكن، ومن أوجه التناقض المريبة، هو أنّ أمين عام تيار المستقبل أحمد الحريري، يدير حملة جمالي الانتخابية، بشعارات انتخابات أيار 2018 نفسها، رغم أنّه يتعاطى مع نتائج الانتخابات الفرعية المنتظرة في 14 نيسان الجاري، بوصفها مضمونة في جيبه. من جهة، ضَمِن وقوف ميقاتي إلى جانبه، بامتناعه عن إعلان مرشحٍ له على هذا المقعد، بعد أن أصبح دعم النائب السابق محمد الصفدي تحصيل حاصل. ومن جهةٍ أخرى، نجح الحريري بكبح جموح ريفي وإعادته إلى كنفه، بغطاءٍ سعودي – إماراتي، وبوساطة الرئيس فؤاد السنيورة، تحت شعار "رصّ الصفّ السّني". 

هذا التحالف العريض، الذي بدا على هيئة "تجنيد" لمصلحة جمالي، أكثر "شواذٍ" تجلى فيه كيفية التعاطي مع أبناء المدينة، كانت عودة ريفي إلى الحضن الأزرق، من دون أن تكون مسوغات هذه العودة منطقية لتبرير خصومة السنوات الماضية. الاستخفاف في التعاطي مع الشارع، يعكس في مضمونه استخفافًا موازيًا لنظرتهم تجاهه. هذا الشارع، مُعلّب في نظرهم، يُسيّر أوتوماتيكيًا. قبل يومين، يزور أحمد الحريري ريفي في مكتبه، فيقول الأخير: "ليحتكم كل واحد منكم لضميره ولنداء وحدة الصف، وليعطي صوته بكل حرية وتجرد، لمن يمثل هذا الهدف". طبعًا، لم يشرح اللواء المتقاعد السبب المتغيّر لدعوته إلى "صحوة الضمير". أقرن "وحدة الصفّ" بأن يصوّت الناس "لمن يمثل هذا الهدف"، أيّ جمالي. لكن، وحدة الصفّ بوجه من؟ بوجه معارضي السلطة؟ أم بوجه أكثر من نصف أبناء  المدينة الذين عبروا عن موقفهم بمقاطعة الانتخابات النيابية السابقة؟

كسر حزب الله؟
استكمالًا للمشهد الهزيل، من المضحك المبكي أن يكون مبرر وحدة الصفّ السّني في طرابلس، هو لمواجهة حزب الله. إنّه عنوان معركة "الشيخ أحمد"، منذ إطلاقه ماكينة جمالي الانتخابية قائلًا: " طرابلس ستكسر حزب الله وحلفاءه والمعركة لردّ الغدر". لكنّ المدينة الأفقر على حوض البحر المتوسط، التي ينوي أحمد الحريري أن يكسر فيها حزب الله، من خلال ديما جمالي، قاطع حلفاء الحزب فيها الانتخابات اقتراعًا وترشحًا، بعد قرار العزوف الذي أعلنه مرشح جمعية المشاريع، طه ناجي. فمن سيكسرون إذن؟

إفلاس الخطاب الذي يتقدّم أشواطًا على الإفلاس الشعبي، كرّسه "أمين المستقبل" في زيارته إلى منطقة القلمون بعد عزوف ناجي عن الترشح، داعيًا إلى "المشاركة الكثيفة ردًا على من يريدها هزيلة"، هكذا قال حرفيًا! يخشى "المستقبل" من نسبة اقتراعٍ منخفضة، قد لا تتجاوز الـ 20 في المئة في أحسن أحوالها، وهو ما قد يُفقد الانتخابات شرعيتها المعنوية على مستوى الزعامة. وفي ظلّ غياب مرشحٍ جديّ يُحسب على حلفاء حزب الله، يفقد التيّار مضمون خطاب شعبوي (هزيل أيضًا) لشدّ العصب الطائفي، بعيدًا من وطأة إطلاق وعودٍ تنموية ووظيفية، لن يتحقق منها شيئًا.

العراك الموهوم
اللافت في حملة "المستقبل" الانتخابية، هو أنّ ديما جمالي، التي كانت نائبةً عن المدينة طوال هذا العام، لم تحسن إدراة حملتها، من دون أن يرافقها يوميًا أحمد الحريري، كما لو أنّها حملته شخصيًا! وإذا كانت الدكتورة الأكاديمية تواجه عدم استساغة لها، من جمهور الحلفاء الجدد الداعمين، وربما من جمهور المستقبل نفسه، فقد اضطرت أن تنزل إلى ثقافة الطبل والزمر والشعارات الجاهزة والمستهلكة وصور التبجيل والتمجيد، من أجل مقعدٍ خسرت شرعيته. لكن، قد يعرف "المستقبل" أن معركته الفعلية هي مع جمهوره حصرًا، أو مع المتحدرين من صفوف ثورة 14 آذار، لا سيما أن أغلب المرشحين المستقلين كانوا يدورون في فلكها، إلّا أنّ "المستقبل" يتعاطى معهم ومع الشارع السني بمنطق استحواذي، يناقض ثقافة التعددية، التي أرساها الرئيس الراحل رفيق الحريري.

هذه الانتخابات الفرعية، التي تُدار على الأرض، بعيدًا من الشعارات، برُخَص "الفوميه" والأسلحة، والدولارات الزهيدة مقابل تعليق صورةٍ هنا وهناك، يصرّ تيار "المستقبل" أن يوهم الشارع أنّها معركته ضدّ حزب الله، حتّى وإن لم يكن لحلفائه مرشحًا. فما هذا الخداع؟ يدرك التيار، كما من المفترض أن يدرك شارعه، هو أنّ حزب الله ليس معنيًا أصلًا بانتخابات فرعية، على مقعد نيابي واحد في طرابلس، لن يقدّم ولن يؤخر شيئًا في الحسابات الداخلية. وذلك تحديدًا، بعد أن أصبحت الأغلبية النيابية بيده، وبعد أن تشكلت الحكومة بمعاييره، فيما وزيره الصحة جميل جبق، يجوب كلّ المناطق اللبنانية، بما فيها طرابلس وعكار، لدعم مستشفياتها ورفع أسقفها المالية من دون تمييز أو تفرقة.

الإشكالية المعقدة، في شارعٍ يضربون على وتر هزائمه، سياسيًا واقتصاديًا، هي أنّ "تيار المستقبل" الذي سبق أن عقد 20 جلسة حوار مع حزب الله، ووافق على قانون انتخابي لصالحه، ثمّ تولى الحريري رئاسة حكومة "إلى العمل" بموافقته، وشاركه فيها تحت شعار "ضرورة الحفاظ على الاستقرار في البلد"، لا ينسى محاربته، ولو خطابيًا، كلّما "احتاج" أن يتوجه إلى قاعدته الشعبية. فعند كلّ استحقاق انتخابي، يُقاتل التيّار في شارعه حزب الله بالشعارات ووعود "التحرير"، ويؤججه مذهبيًا. حينها، يصبح العراك "الموهوم" مع الحزب، الذي لا بديل منه لمخاطبة الشارع السّني، واجبًا ضروريًا.   

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024