انتصارات بيروت وهزائم المناطق: للاقتداء بتجربة "شبكة مدى"

قمر سليمان

الأربعاء 2021/07/21

شهد السابع والعشرون من حزيران يوماً مفصلياً في معركتنا بوجه النظام القائم، حين تصدّر الانتصار الساحق الذي حققته أحزاب ومجموعات المعارضة في انتخابات نقابة المهندسين في بيروت، تحت لائحة "النقابة تنتفض"، عناوين الصحف ونشرات الأخبار والمنشورات في العالم الافتراضي. ووضع حجر أساس للانتصار الآخر في 18 تموز، عندما اكتسحت اللائحة مركز النقيب وأعضاء مجلس النقابة بأربعة أضعاف الفرق عن لوائح السلطة. إلا أن هذا المشهد السعيد، الذي انتهى باحتفال المنظمين في بدارو، كان أقل سعادة إن ابتعدنا بضعة الكيلومترات عن العاصمة.

الانتقام شمالاً.. والتعتيم
ففي اليوم نفسه، كانت طرابلس تشهد واقعاً مختلفاً جداً عن نشوة الانتصار، حيث تعرضت إلى جولة جديدة من العنف المفرط. ومن الضرورة أن نشدد أنّ العنف الذي تشهده مدينة طرابلس يختلف في الشكل والنوع عن العنف المتعمّد في باقي المناطق، لأسباب وشروط أمنية واجتماعية عديدة، مرتبطة بعلاقة النظام بالمدينة. فباتت السلطة بذراعها الأمني والعسكري تردّ على انتصار المعارضين في بيروت عبر سياسات القتل والقمع في الشمال. وانتهت الجولة بجرح العديد من سكان طرابلس وسحلهم وتدمير ممتلكاتهم، واعتقال الصحافي محمد العمر، بطريقة الخطف من قبل شبّان يرتدون لباساً مدنياً.

وهذا المشهد لم يستحق اهتمام الإعلام التقليدي. فكانت التغطية محصورة بهواتف الطرابلسيين، وبعض صفحات الإعلام البديل. وهذا التعتيم خارج بيروت ليس جديداً علينا، فأثناء أيام الانتفاضة الأكثر احتداماً، لم تنل بعلبك التغطية الإعلامية في أغلب الأحيان، حتى عندما امتلأت الساحات بالناس، وحتى عندما احترقت الهرمل ولم تصل طوافات الإطفاء إلا بعد ساعات. ولم تستحق أخبار بعلبك الهواء إلا عندما حدثت اعتداءات خدمت الاعتبارات السياسية لدى بعض المحطات، التي لديها مواقف ملتبسة من الأحزاب الحاكمة في تلك المناطق.

الإخفاقات في طرابلس
لكن هذا التقصير مع مناطق "الأطراف" لا يقتصر فقط على السلطة وإعلامها التقليدي، بل ينعكس أيضاً على مجموعات وأحزاب المعارضة، التي تشهد وجوداً خجولاً في أحسن الأحوال خارج المناطق المركزية، لأسباب اجتماعية موضوعية، وخيارات واعية لاعتبارات إنتخابية محصورة. وانعكس ذلك في انتخابات نقابة المهندسين في الشمال، التي لم تشهد لوائح معارضة، ولم يُخصَّص لها سترات براقة عليها شعارات اللائحة.. فاكتحست لوائح السلطة منصب النقيب والمقاعد جميعاً، لأن لوائح المعارضة انسحبت بعد فشلها في التنسيق وفي التوافق على المرشحين. وعلى الرّغم من الواقع الثوري الطاغي في طرابلس أثناء تظاهرات 17 تشرين، إلّا أن هذا الفشل لم يكن الأول في الشمال. فقبل ذلك بفترة وجيزة خسر المعارضون نقابة الأطباء في طرابلس، وفازت لائحة السلطة التوافقية بكامل أعضائها. أما انتخابات نقابة المحامين، التي اعتُبر انتخاب النقيب خلف في بيروت وقتها أحد أول انجازات الثورة، فكانت مقررة في الشمال في تشرين الثاني 2020، لكنها لم تجرِ بعد، وتأجلت بذرائع تتعلق بالجائحة والوضع الصحي في البلد.

ولعل هذه الأمثلة تستحق التوقف كثيراً، لأن طرابلس هي المدينة التي شهدت أكبر عدد من الاحتجاجات، وكانت وحيدة في الشارع أحياناً كثيرة. ومع ذلك، فشلت المعارضة فيها بخوض أي معركة، ما يلزم المعارضة إعادة النظر في المعارك التي تخوضها وجدية توسعها خارج العاصمة، خصوصاً وأن التجربة اللامركزية الوحيدة والتي كانت ضمن تحالف "كلنا وطني" في الانتخابات النيابية السابقة قد باءت بالفشل للعديد من الأسباب المختلفة.

العمل القاعدي خارج العاصمة
لا شك بأن الحركات القاعدية الجديدة، كالنوادي العلمانية، قدّمت نموذجاً جدياً في التوسع القاعدي، فبعد انحصارها بثلاثة أندية داخل بيروت وبعض المناطق في الجوار، قبل الانتفاضة، قامت بالانتشار في جميع الرقع الجغرافية، فتشكلت في جامعات الشمال مثل البلمند والكسليك، وفي مناطق أخرى، بعد النجاح الكبير لتجربة النادي العلماني في منطقة صور، والتي امتدت لتشمل نظيره في صيدا، وآخر في عاليه، والعمل على مناطق أخرى كطرابلس وغيرها، وصولاً إلى التجمع العلماني في قطاع الهندسة، الذي خاض المعركة الانتخابية وانتصر بمرشحه بول نجار على رأس اللائحة.

وما يميز بعض النوادي ليس فقط لامركزيتها، بل تشعبها هي أيضاً. فجامعة البلمند تتواجد في أربع مناطق بعيدة عن بعضها البعض، لكنها تتواصل عبر أعضاء النادي العلماني هناك. كذلك الأمر في الجامعة اللبنانية الدولية، التي يشهد ناديها  انتشاراً في جميع أفرعها التي تمتد على مساحة لبنان، هذا إضافة إلى الجامعة اللبنانية التي لا ينحصر التنظيم فيها في الحدت، بل يضم أعضاء من العديد من الكليات والأفرع.

لذا، تقدم هذه النوادي نموذجاً للعمل ضمن شبكة مدى، حيث  تتمثّل في شبكة أصبحت موجودة بكثافة في مختلفة الجامعات والمناطق والقطاعات، وأصبحت تمثّل تقاطع مصالح لفئة كبيرة من الشباب. ونموذج العمل هذا، ان استمر بالتطور والتوسع، سيسهّل خوض تلك المعارك على مستوى البلد، داخل بيروت وخارجها.

ويشهد العمل القاعدي في الخريف تحدياً جديداً، مع انتخابات الجامعات التي لن تخاض فقط في بيروت، بل ستتوسع لتشمل جامعة اللويزة في كسروان، وفرع اللبنانية الأميركية في جبيل. لكن التحدي الأكبر هو انتخابات الجامعة اليسوعية، التي ستكون أيضاً في فروع زحلة وطرابلس وصيدا. وستكون تجربة مهمة لانتخابات خارج بيروت، بمرشحين علمانيين تقدميين، يكسرون القيود والأعراف، كما كسرها النادي العلماني في اليسوعية في أكثر من كلية، أهمها كلية الحقوق السنة الماضية، وكما كسرها النقيب عارف ياسين في بيروت.

ولذا، من الضرورة أن يتطور خيار التنظيم القاعدي اللامركزي هذا، ليشمل باقي المناطق والقطاعات، وليضمّ كل فئات المجتمع، إلى أن يتحوّل إلى مقاومة شعبية في وجه النظام، ويحدث فرقاً في الانتخابات النيابية والبلدية المقبلة، كمحطات أساسية من محطات النضال المستمرّ. هذا النضال، من خلال استرجاع المجتمع، سيفرض سرديته الخاصة نحو عملية إنتقالية من مجتمع الطوائف إلى المجتمع العلماني التعددي، الذي يهدف إلى إسقاط نظام المافيا والميليشيا والمصارف.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024