الجنوب "المقاوم".. العذابات الجديدة

يوسف بزي

الخميس 2021/04/08

ليس للسياسة دخل بكورونا. لكن للفيروس تأثيراً خفياً في السياسة وأفكارها. النظام الاستشفائي وكفاءته. واجبات البلديات والجمعيات وأداؤها. نفوذ رجال الدين ومواعظهم ومدى درايتهم. الأجهزة الحزبية وفعاليتها واستقامة أفعالها. كل هذا أدخله الفيروس في الامتحان السياسي لدى عموم السكان، وتسلل إلى عقولهم وألسنتهم. فالجائحة هنا لها وقع ديني، أقرب إلى فكرة اللعنة الإلهية، التي تجلب خوفاً من هشاشة الحياة وتتحدى الإيمان نفسه. والأهم أيضاً أنها تغيّر من أولويات التفكير والهموم. إنها لحظة نادرة حين تتقدم الصحة والعافية على مقارعة خصوم وأعداء، ويتقدم مطلب الطب على مطلب السلاح مثلاً..

على منوال كورونا وأفاعيله السياسية، فإن كلمتي "الليرة" و"الدولار" تهيمنان على اللغة والكلام. تحتلان تقريباً كل حديث في السياسة وخارجها. المال أو بالأحرى فقدانه له أثر هائل في "تفتيت" الصلابة الاجتماعية التي ميزت الجماعة المنتصرة والمقاومة طوال عقدين.

هناك في القرى، ما بين الهمس والتصريح تعبر أو تفلت تعبيرات أشبه بالمحرّمة ما قبل 2019: "مش بس الشيعة رح يرجعوا عتالة، البلد كله صار شحادين". المتهم بذلك لا يُسمى. لكن الجميع يعرفه. هذا كاف لوحده لندرك قوة الامتعاض السياسي هنا، الذي يقول أن تغيراً ما يحدث في اشتغال العقول وقناعاتها. يزعزع ذاك الخطاب الانتصاري المتشاوف على الطوائف الأخرى، بقدر ما يستنفد خطاب الحرمان القديم.

كانت الجنازات قبل 2019 بالغة المشهدية. جنازات استعراض الحزن والتشييع والاحتفاء القوي بالتضحية والبذل وبالدم المسفوك الذي يمدّ الجماعة بالشكيمة. كان الموت مناسبة عارمة لتهبّ  القرى وراياتها خلف توابيت الشبان الشهداء، في مشاهد مهيبة لمجتمع الحرب والسلاح.

الموت الآن مجردٌ، صامتٌ، شبه خفي، ومكلل بمهانة مضمرة. جنازات كورونا المهيمنة، لضحايا الوباء أو غيرهم، كسرت تماماً تلك "الاحتفالية"، وجرّدتها من أي عنفوان. الموت بكامل حقيقته وخال من "السياسة". التشييع والدفن لا يدعوان لأي فخر. ويبقى فقط الحزن العادي. الجنازة تعود إلى شكلها القديم، إلى العائلة والأقارب، إلى طقوس الحداد وكآبات التعازي.

هذا أيضاً تحول رهيب في العلاقة مع الموت. علاقة لا انتصارات فيها ولا تبجيل. موت أقل أيديولوجية، وأكثر دينياً. عادت صورته وصورة مقابره "جواراً مخيفاً" وحسب. وربما، عادت الحياة نفسها "ثمينة" وعزيزة ومرغوبة أكثر من التضحية البطولية.

ما هو أشد تواضعاً من ذلك، لكن بالغ التأثير أيضاً، مشاهد الدكاكين والسوبرماركت. فهنا الشكوك حول الكرامة والعزة لها أسبابها الوجيهة. شكوك مؤلمة ومكبوتة سياسياً، لكنها تنفجر يومياً. شكوك تعذب ضمائر الجماعة وتضنيها، لتميل إلى الممانعة في البوح والاعتراف أو طرح التساؤل، خوفاً من أي شماتة.

في الجنوب اليوم، تمتد طوابير السيارات أمام محطات الوقود -بلا مبالغة- كيلومتراً. وعلينا، والحال هكذا، أن نخمّن بماذا يفكر هؤلاء أثناء انتظاراتهم المذلة لساعات. إلى أين تصل ملاماتهم وشكواهم الصامتة؟ هل تتخطى "الخطوط الحمر"؟ فعلى أي حال، لا تزال صيحة "لبّيك" تشتغل في أمور كثيرة، لكنها تخمد على رفوف السوبرماركت وقد لا نسمعها عند محطة الوقود. فتلك الصيحة لها شروطها غير المتناسبة مع خزانات سيارات فارغة وجيوب فارغة وأمعاء خاوية. 

الولاء قويّ. لا شك بذلك. لكن الأسئلة تتراكم. العذابات الجديدة ليست هينة، وعلاجها لا يصح بوصفات قديمة انتهت صلاحيتها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024