لبنان حسن نصرالله.. بلا ماضٍ ولا ذاكرة ولا مستقبل

محمد أبي سمرا

الخميس 2020/10/01
يراودنا اليوم - نحن معاصرو لبنان الستينات وحروبه الأهلية (1975-1990)، والحقبة التي تلتها وطَبَعها حضور رفيق الحريري وسياساته (1992-2005) بطابعهما، الذي راح يحتضر بطيئاً بطيئاً منذ حرب تموز 2006 - يراودنا شعورٌ غير مسبوق بحضوره وقوته الساحقة: لقد مُحقَ لبنان وفقد ذاكرته، وكبرنا سنواتٍ عشر على الأقل في سنة 2020 المشرفة على نهايتها بعد شهورٍ ثلاثة.

كأن ما يشبه مطرقة هائلة هوت على لبنان وعلينا في هذه السنة، فأطبقت عليه وعلينا حتى الاختناق والمحق، اللذين قد يشبهان ما خلّفه محق الجراد إبان الحرب العالمية الأولى. أو كأنما فأساً ضخمة هوت على الزمن والتاريخ اللبنانيين، فبترتهما عن ماضيهما كله، وجعلتهما ماضياً وتاريخاً بعيدين، نائيين وسحيقي القدم.

والمطرقة والفأس هاتان تشبهان تلك اللتين هوتا على ماضي البلدان التوتاليتارية وتاريخها، فمحقتهما، ليعيش أهلها في حاضر أبدي بلا ذاكرة ولا تاريخ. حتى ليبدو لنا أن ما عشناه ونتذكره من حياتنا قبل هذه السنة (2020) - المطرقة والفأس، قد وَهَت صلتنا به وانقطعت، حتى أمسى شبحياً وظلالاً، أو سراباً خالصاً.

ماضٍ لسنا نحن من عشناه ونتذكره، بل عاشته أجيال سابقة علينا، لا نعرفها ولا تعرفنا. وهذا يعني أننا لم نعد نتعرّف على أنفسنا، كأنما الآن وُلدنا مسنِّين، بلا ماضٍ ولا ذاكرة. 

فجأة اكتهلنا، في سنة واحدة، بل في أقل من سنةٍ، مضغوطةٍ كثيفة، فصرنا سريعاً في أعمار أجدادنا، وانحنتْ هاماتنا وظهورنا، ثُبِّطت همتنا وإرادتنا، وثقُلت خطواتنا. ووجوهنا اكفهرت واغبرّت، وعَتِقَت ثيابنا، كأنما من البالات اشتريناها، مثل أثاث بيوتنا. مثل الإسفلت المهترئ في شوارعنا. مثل عمراننا الهستيري البرِّيّ في مدننا وعلى التلال والروابي والجبال والشواطئ. مثل مجاري الأنهار الموبوءة. مثل نهارات بيروت ولياليها المصابة بالجدري. مثل نشرات أخبارنا المسائية. مثل بقايا الكلمات الفاسدة من كثرة الاستعمال.

لقد تخشّبت اللغة في أفواهنا، ولم تعد تقول شيئاً. لا عن الماضي ولا عن الحاضر. والكلمات أمست ركاماً، مثل الأحياء القريبة من مرفأ بيروت. مثل مرفأ بيروت. مثل يوميات كورونا المكمّمة. مثل "ثوار 17 تشرين". مثل موجة المنتحرين. مثل عيون المتظاهرين المفقوءة حول أسوار مجلس النواب. مثل أبواب المصارف المصفحة بالحديد. مثل المقاومة التي تحمي ظهرها بالكوارث. مثل متاجر الثياب المليئة بالردم. مثل أرتال الأسماك النافقة على رمال الشاطئ. مثل من يقولون إنهم يخزِّنون السلاح والصواريخ في بيوتهم، وإن أجسامهم قنابل موقوتة. مثل الوعد بالظلام الكامل.

****

تذكّر حالنا اليوم في هذه السنة - المطرقة أو الفأس، بما حدث مرة بين الراحل منح الصلح وامرأة تعرفه ويعرفها وثيقاً من سنين طويلة، كانت المرأة فيها سافرة بلا حجاب، ثم تحجبت. وبعد مضي مدة على تحجّبها لمحت منح الصلح يمشي على رصيف في شارع الحمراء، فاقتربت منه وألقت عليه التحية، واستوقفته لتحادثه. ولما انتبهت إلى أنه لم يتعرف إليها، بادرته بالتعريف عن نفسها وباسمها. وبفطنته التهكميّة اللاذعة، حدّق منح الصلح في وجه المرأة وحجابها، ثم قال لها: لا تؤاخذيني كنت أعرفكِ في أيام الجاهلية. أي ما قبل الإسلام والهداية والتحجب.

هذه بالضبط حالنا اليوم في لبنان حسن نصرالله وحزبه ومقاومته، وحياتنا فيه: لم نعد نتعرف إليه، ولا على أنفسنا، الآن وفي العهود السابقة على هذه السنة، والمندثرة كلها، كأنها لم تكن يوماً ولا عرفناها وعشنا فيها.

حتى في سني حروبنا الأهلية لم نصب بمثل هذه الأعراض. لم تبلغ بنا القطيعة المزمنة عن بلدنا وتاريخه، عن أنفسنا وحياتنا وذكرياتنا وذاكرتنا فيه، هذا المبلغ من البتر والمحق الكاملين.

لقد ظلَّ الزمن وظلت الذاكرة والذكريات متصلة اتصالاً وثيقاً في تلك الأزمنة السالفة. ففي سني الحروب ظلَّ الزمن الحاضر - على الرغم من القتل والتهجير والتدمير والخوف المتمادية كلها طوال تلك السنين - مفتوحاً على الماضي ومتصلاً به بلا انقطاع وبتر. وظل الماضي "السعيد" والحاضر الحربي التعيس والبائس، متصلان بالآتي والمستقبل الغامض واحتمالاته. وظلت السجالات والمناقشات والآراء مشرعة ومفتوحة، على الرغم من السلاح والميليشيات واحترابها اليومي.

وعندما توقفت الحرب التي اختتمها الجنرال ميشال عون بجولتين مدمرتين، أدتا إلى استتباع لبنان لسوريا الأسد استتباعاً كاملاً، ظلت أزمنة الحرب ومآلاتها مادة حاضرة في السجالات والمناقشات. وظلت الذاكرة متصلة وثيقاً بما حدث في الحرب. وعندما بدأ زمن إعادة الإعمار الحريري اتسعت تلك السجالات ولم تنقطع. وعلى الرغم من الطغيان السياسي والأمني الأسدي، ظل هذا الطغيان إياه مادة للسجال، فبلغ ذروته في عشايا اغتيال رفيق الحريري.

وهنا، في هذا السياق، يحضر أيضاً قول لمنح الصلح، عميق الدلالة على ما فعله الحريري وزمنه. فقد قال الصلح مرة: لقد عتّقنا رفيق الحريري. أي جعلنا قدماء، نحن السياسيين اللبنانيين التقليديين، الوجهاء والأعيان، السابقين على الحريري وزمنه.

ولكن العَتق والقِدَم اللذين قصدهما الصلح، لم يكونا وليدي عمل الحريري وزمنه وحدهما، بل سابقين عليهما، ويعودان إلى زمن الحرب وميليشياتها التي همّشت السياسيين التقليديين اللبنانيين، من نواب وأبناء عائلات ووجاهات، وحطمت مؤسسات الدولة وأخذت تستتبعها وتتناهبها. وهذا ما أرست الحريرية عليه وجهاً من وجوهها في رعاية سياسات الأسد اللبنانية.

****

أما اليوم، ومنذ مطالع سنة 2020، فيعيش لبنان حسن نصرالله ولبنانيوه في القطيعة الزمنية الماحقة مع الماضي اللبناني كله، ماضيهم الذي تحول صوراً متْحفية متجمِّدة في الزمن، بل خارج الزمن. وهي صور تشبه ذكريات كهول يستعيدون طفولتهم المنقطعة. لقد تقلص الزمن اللبناني الماضي، استُنفِد كله حتى الاضمحلال والخواء الكامل.

وها نحن نعيش يوماً بيوم، لحظةً بلحظةٍ، وفي حاضر أبدي، بلا ماضٍ ولا ذاكرة ولا مستقبل.
وماذا يكون هذا الحاضر الأبدي سوى الجنة أو الجحيم، لا فرق.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024