"التسوية" المرتقبة: عملية تجميلية محدودة للقطاع المصرفي وللدولة؟

نبيل الخوري

الجمعة 2022/01/14

على عكس الانطباع السائد، ثمة إمكانية فعلية لفرملة الانهيار اللبناني وبدء تنفيذ "خطة التعافي المالي والاقتصادي". هذا السيناريو "المتفائل" يمكن أن يتحقق من خلال تسوية لبنانية شاملة. وما التصعيد المتبادل من قبل الأطراف الفاعلة سوى وسيلة لتحسين شروط التفاوض.

رئيس الحكومة اللبنانية، نجيب ميقاتي، يواصل إدارة مسار المباحثات مع صندوق النقد الدولي. وحديثه مع "المدن"، يعكس قناعة بأن حكومته نجحت حتى الآن في إبطاء وتيرة الانهيار. وهو يربط بين مهمة إنجاز الموازنة العامة ومهمة استكمال المباحثات وبدء المفاوضات مع صندوق النقد، لتطبيق البرنامج الإنقاذي.

رهانات ميقاتي
من الواضح أن ميقاتي يراهن من جهة، على القوى الغربية المؤثرة التي تبدو ميّالة أكثر فأكثر إلى حلول توفيقية، من شأنها أن تساهم في الحفاظ على القدرات التشغيلية للدولة اللبنانية وترميم ماليتها العامة وحل أزمة القطاع المصرفي. ويراهن من جهة ثانية، على مرونة نسبية ومحدودة من قبل حزب الله لتمرير جلسة إقرار الموازنة في اجتماع لمجلس الوزراء، الذي تعطّل بسبب قرار مقاطعة اجتماعاته من قبل الوزراء "الشيعة"، على خلفية التحقيق القضائي بجريمة تفجير مرفأ بيروت.

جوهر الصراع اللبناني
سواء قام الحزب بتليين موقفه أم لا، تبقى مسألة تعطيل عمل مجلس الوزراء، على غرار مسألة تأخير تشكيل الحكومة في السابق، تفصيلاً أو غطاءً لصراع كامن على السلطة في لبنان.

يتمحور هذا الصراع حول مسألتين أساسيتين: إعادة هيكلة المصارف، وإصلاح مؤسسات الدولة. وتتداخل هاتين المسألتين مع مسائل تهمّ الجهات الدولية المانحة (كما تُعلِن)، كالفساد والشفافية والنزاهة والمساءلة والمحاسبة.. ومع مسائل تهم الطوائف وأحزابها في لبنان، كحجم تمثيل الطوائف وسلطة الطوائف داخل النظام اللبناني.

شروط المانحين والقوى المحلية
المانحون لا يريدون إعادة تمويل دولة تعاني من فساد مفرط ومن نهب غير محدود. وإذا كانوا يطالبون بإعادة هيكلة المصارف وتقليص عددها، فذلك لأن دوافعهم تتمثل في تحسين القدرة على ضبط عمل المصارف والحد من عملياتها المشبوهة (تبييض أموال، تهرّب ضريبي، تمويل حزب الله..).

أما القوى اللبنانية المعنية بالصراع، فحكايتها مختلفة. وحساباتها مزدوجة: تحقيق المصلحة الشخصية للزعماء وحاشياتهم؛ وتحقيق مصلحة الطائفة التي تمثلها. وهذه الأهداف لا تتحقق إلا من خلال لعبة السيطرة على الدولة وعلى المصارف. وهذا ما يدفع القوى اللبنانية المتناحرة إلى رفض أي إصلاحات من شأنها إضعاف دورها في الدولة ودورها من خلال المصارف.

مصارف الطوائف
المقصود هنا أن الصراع المخفي هو صراع بين من يريد الحفاظ على نظام مصرفي متهالك، يسيطر عليه متمولون وأثرياء ينتمون بأغلبيتهم على ما يبدو إلى الطوائف المسيحية، ومن يريد إعادة هيكلة تفتح الباب على الأرجح أمام دخول متمولين وأثرياء "شيعة" إلى القطاع المصرفي اللبناني. وفي الحالة اللبنانية، يبدو أن أي تعديل في الخريطة المصرفية أو التوازنات المصرفية، من شأنه أن يؤدي إلى تعديل في التوازنات السياسية. ولا يستبعد مراقبون سياسيون في مساهماتهم الأكاديمية والصحافية أن تأتي الترجمة الفعلية لهذه التغييرات على شكل تعزيز دور ومكانة الطائفة الشيعية ومعها حزب الله في "السيستم" السياسي اللبناني ككل.

المشكلة بين هذه القوى اللبنانية ليست بالتالي مشكلة فساد أو تبييض أموال أو احتيال، أو نظام ضريبي غير عادل تستفيد منه المصارف، بل هي مشكلة مصالح خاصة وتوازنات طائفية.

..ودولة الطوائف
المنطق نفسه يحكم الصراع المتعلق بإصلاح الدولة. فالطوائف اللبنانية وعائلاتها السياسية وأحزابها لا تريد خسارة الوظيفة الزبائنية والنفعية لجهاز الدولة. وأي إصلاح سيقلص بالضرورة حجم القطاع العام، وسيحدّ ربما من المنافع والمغانم. وإذا كان صحيحاً أن العدد الأكبر من موظفي القطاع العام ينتمون إلى الطائفة الشيعية، فهذا يعني أن "تنحيف" القطاع العام، وفقاً لمتطلبات الإصلاح ووصفات صندوق النقد الدولي وشروط المانحين، سيؤدي عملياً إلى تراجع مكانة الطائفة الشيعية في الدولة، ناهيك بأنه سيخلق أزمة اجتماعية جديدة، لم يجر العمل على استباقها عبر توفير بدائل للناس. وهي أزمة يريد تحالف حركة أمل وحزب الله تجنّبها بأي ثمن.

أي تسوية في ظل المعضلة؟
ثمة إذاً تناقض في المصالح بين الطوائف، يَحول دون تسهيل العملية الإصلاحية. فأي تحديث تقدمي للإدارة العامة، يعني خسارة وظائف وفرص عمل ونفوذ ومنافع ومغانم لهذه الطائفة أو تلك ولزعماء الطوائف. وأي إعادة هيكلة للمصارف وتأسيس مصارف جديدة، قد تؤدي إلى تعديل موازين القوى مع وجود طوائف رابحة وأخرى خاسرة.

هنا تكمن معضلة الصراع اللبناني اليوم. فإما أن يتم إبرام تسوية شاملة وإما أن تكتفي القوى الدولية والعربية (باريس تتحدث عن صندوق مشترك مع الرياض وأبو ظبي..) بتأمين شروط إدارة الأزمة بوصفها أزمة إنسانية في دولة فاشلة أو شبه فاشلة.
وهذه التسوية لن تؤدي إلى تغيير سياسي ولا إلى تغيير النموذج الاجتماعي والاقتصادي اللبناني. كل ما يمكن أن تنتجه التسوية يتمثل في تقديم تنازلات متبادلة. فتقتصر التغييرات على عملية تجميلية للقطاع المصرفي من دون تعديل جذري لخريطة التوازنات فيه، مقابل عملية تجميلية محدودة للدولة وقطاعها العام وماليتها العامة، من دون المس على نطاق واسع بالأمر الواقع الديموغرافي الطائفي القائم في مؤسسات الدولة. هذه هي التوقعات للمرحلة المقبلة، إلا إذا كان تحالف حركة أمل وحزب الله سينجح في السيطرة الشاملة على الدولة وعلى القطاع المصرفي اللبناني معاً؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024