طارق البيطار.. رجل العام 2021

نادر فوز

الجمعة 2021/12/31
القاضي طارق البيطار هو شخصية العام 2021. ولا حاجة لنقاش مستفيض في ذلك. كما أنه لا حاجة للبحث عن درع تكريمي أو جائزة أو منحة. رجل واحد دارت حوله كل الملفات. وارتبطت بإسقاطه كل التسويات. وشُبكت حوله كل المقايضات. ونُسجت لـ"قبعه" مختلف المؤامرات. لكنّه صمد، في مكتبه، في تحقيقه، وبين أوراقه.

في زحمة القضايا والانهيارات والأزمات اللبنانية، وحتى تلك الإقليمية التي تحلّ ثقيلةً على الساحة المحلية، موضوع واحد يبعث الأمل: التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت قائم ومستمرّ بحثاً عن العدالة. يقوده رجل واحد، بات إبليساً بالنسبة للبعض وورقة مقايضة لآخرين. أما بالنسبة للمعنيين في ملف الجريمة، فهو المنقذ. كيف سقط على هؤلاء قاضٍ بهذا العناد والإصرار على مواصلة التحقيق بينما كل ما حولنا منهار ومأزوم ومتروك ومدمّر في فوضى مطلقة؟
الرجل خاض معارك عديدة ومواجهات متنوّعة حتى مع طبيعة النظام والعمل السياسي في لبنان.

في التسييس
القاضي طارق البيطار متّهم بالتسييس. إلا أنّ تسييس الملف طرأ فعلياً حين بدأت القوى السياسية تقييم التحقيق وإبداء الملاحظات وإعطاء التوجيهات ورسم الخطوط الحمراء. القوى السياسية وحدها سيّست الملف في محاولة الإطاحة بالتحقيق ومن خلفه. فريق يهاجم المحقق العدلي والتحقيق من منطلق سياسي، وآخر يحاول توظيف التحقيقات سياسياً أيضاً. والبيطار بينهما، على مسافة واحدة منهما. يتفرّج، ونحن معه نتفرّج على محاولة تضييع دماء حقوق قتلانا، وحقوق عاصمتنا. كان كل شيء يمشي في السليم، على وحدة المعايير السياسية التي وضعتها أحزاب السلطة، إلى أن مضى البيطار في قرار استجواب المدعى عليهم من أمنيين وسياسيين ورؤساء ووزراء. فتمّ إغراقه في حملة التخوين والائتمار من السفارات والجهات الخارجية. ولم تنفع الحملة.

في التطييف
في زاوية أخرى، حاولت القوى السياسية مجدداً الإطاحة بالتحقيق من باب آخر. ورقة الطائفية. ورقة سحر أسود أشبه بجوكر سياسي عمره مئة عام لا يقضي على قوّته الزمن. ما أن يُرمى على الطاولة حتى تُخلط الأوراق مجدداً وتُشطب نتائج اللعبة. مجزرة 4 آب قضية مسيحية أولاً. نظرية أولى. القضاة مسيحيون يتأثرون بالرأي العام المسيحي المتضرّر الأول من انفجار مرفأ بيروت. خلاصة النظرية الأولى. خلاصة ونظرية فاشلتان لم تؤتيا بثمارهما. فتمّ اللجوء إلى اللعب الطائفي المباشر. ثنائي شيعي يحتجّ ويتحرّك ويتظاهر. مسّ بالسلم الأهلي واشتباك مسلّح وقتلى وضحايا. دور طائفية تتحوّل إلى منابر للهجوم على التحقيق وحماية المدعى عليهم. شقّ صفوف أهالي الضحايا على وتر مذهبي وآخر طائفي. وكان للتطييف تأثير محدود جداً.

في الاستنسابية
وبين التسييس والتطييف، لا بدّ من اتّهام وظيفي أيضاً، الاستنسابية. واستنسابية القضاء، قد تكون أشدّ الاتهامات لما تعنيه فعلياً على المستوى العدلي وفي العدالة والمحاسبة. القاضي يستنسب في الادعاء على وزراء ورئيس حكومة وضباط أمنيين. كيف؟ لماذا لا يدّعى على وزراء آخرين وضباط آخرين؟ مثل من؟ كل من كان على علم بنيترات الأمونيوم. تفضّلوا جميعاً إلى التحقيق. لا ليس من صلاحيات المحقق العدلي التحقيق مع وزراء ورؤساء وهذه مهمّة مجلس النواب والمجلس الأعلى. فليتحرّك البرلمان ويحقّق ويدّعي على المشتبه فيهم. لا لن يتحرّك. لماذا؟ لأنّ لا أغلبية نيابية محسومة لتبرئة المدعى عليهم. أليس في ذلك استنسابية وعرقلة موصوفة للعدالة؟ هذه طبيعة نظامنا. أسئلة وأجوبة ذاتية وعامة، يطرحها الجميع، ويجيب عنها الجميع أيضاً. وفي الخلاصة، أنّ اتهام الاستنسابية فعل سياسي مباشر أيضاً.

في القضاء
أحيا التحقيق في جريمة انفجار المرفأ فكرة القضاء في لبنان. ثبت أنّ ثمة مؤسسة قضائية وقضاة لا يتحرّكون فقط بناءً على رغبات سياسية. هذه حال البيطار، وحال قضاة آخرين أيضاً رفضوا الرضوخ إلى الحملات السياسية والطائفية للإطاحة بالتحقيق. وما تكسُّر كل محاولة قبع البيطار وتنحيته على الملف، في محكمتي التمييز والاستئناف، إلا دليلاً على ذلك. والفضيحة الكبرى أنّ المحاولة القضائية الوحيدة التي اجتهدت لتحطيم المحقق العدلي، ظهرت تجاوزاتها سريعاً من قبل قاضٍ عيّن قبل ساعات من ارتكاب الفضيحة عضواً في مجلس القضاء الأعلى لتنفيذ أجندة سياسية. التحقيق في مجزرة 4 آب، جاء ليحقّق فرزاً عاماً في البلد ومختلف سلطاته ومختلف قطاعاته: من يريد الحقيقة ومن يبغي طمسها. من يريد تحرير القضاء ومن يسعى لتكبيله. من يريد سلطة قضائية ومن يريدها تابعة وموظّفة.

في اللا ثأر
بعد كفّ يد المحقق العدلي، لمرة واثنتين وثلاث، كان بإمكان الأخير الانجرار إلى صيغة ثأرية لترجمة المسار الذي وضعه التحقيق. كان بإمكانه مثلاً، اللجوء فوراً، بعد رفع قرار كفّ يده، إلى استجواب المدعى عليهم وإصدار مذكرات توقيف بحقّهم. لكنّه لم يفعل. لم يخض التحقيق من باب ثأر شخصي وقضائي وعام. ظلّ محافظاً على توازنه، على سيره في حقل الألغام السياسية والطائفية الذي وجد نفسه يمشي فيه. قد يسهل على عائلات ضحايا الانفجار، وعلى كل متضّرر أو جريح، القول إنه يريد الثأر الآن قبل الغد. لكن البيطار لم يمضِ في خيار مماثل. حافظ على حرفيته وموقعه العدلي. كأنه من خلال ذلك، يردّ أيضاً على كل الاتهامات المساقة ضده في التسييس والاستنسابية.

في القضية المركزية
التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت، قضية وطنية مركزية وترتقي لتحمل أل التعريف أيضاً. القضية الوطنية المركزية. فيها شهداء وضحايا ودماء، من كل الطوائف والمذاهب والجنسيات والألوان والأشكال. فيها نكبة ومأساة. فيها فساد وإهمال وسوء إدارة وسمسرات. فيها خفّة المسؤوليات والترهّل المؤسساتي. فيها الفضيحة الأمنية والاستخفاف بأمن اللبنانيين. فيها معنى من معاني السلاح غير الشرعي وإفلات الحدود والمعابر. فيها ترجمة التدخلات السياسية في القضاء ومحاولة الاستيلاء عليه. فيها تعريف للطائفية والمذهبية. فيها وضوح تام للجريمة، للقاتل والمقتول والساعي إلى طمس مسرح الجريمة كقضاء وقدر. فيها وضوح تام للمواجهة، على المستوى الأخلاقي أولاً. على المستوى الإنساني ثانياً. على المستوى اليومي، والإداري، المؤسساتي، السلطوي، والتحكّم بالقرار وإدارة البلد وأمنه وشؤون ناسه ومصالحهم وحيواتهم وأرزاقهم وكراماتهم.

القاضي طارق البيطار، شخصية عام 2021 في لبنان. رجل لا يخرج من جحر وطواط، ولا يرتدي سترة رجل خارق أو يخفي وجهه في قناع. هو قاضٍ فقط. حمل بعض الأمل بأنّ مواجهة كل هذه السلطة السياسية وتأثيراتها وحروبها الأهلية المتنقلة واتهاماتها وأجنداتها، مواجهة ممكنة. هو رجل العام، ولا حاجة لنقاش مستفيض في ذلك، ولا للبحث عن دروع أو جوائز أو مُنح. البحث يستمرّ مركزاً ومنصباً عن الحقيقة لإحقاق العدالة والمحاسبة، فقط.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024