ثورة لبنان وأعداؤها من ذوي العزم الفاشي

ياسين الحاج صالح

الخميس 2019/10/31

استطاع الثائرون اللبنانيون احتلال فضاءات عامة مركزية في العاصمة بيروت والعديد من المدن اللبنانية. هذا المعطى المكاني أساسي، أبقى الثورة اللبنانية خلال أسبوعين ونيف ملء البصر والسمع، يجري نقل فاعلياتها في الزمن الحقيقي. وأهم من ذلك أتاح أن يكون للثورة إيقاع يومي، وليس أسبوعياً، خلافاً للثورة السورية في بواكيرها.

المحرك الأول
الثورة اللبنانية في انعقاد دائم إذا جاز التعبير، على نحو يُغني عن قيادة خاصة. الثورة تقود نفسها، إنها الجمعية العمومية لنفسها. وهي تحقق تقدما مستمراً بفضل شرطيْها المكاني (ساحات عامة) والزماني (إيقاع يومي)، ثم بفعل مساحة التماس الواسعة بين الثورة والمجتمع، أو النسبة العالية من اللبنانيين المشاركين في الثورة. لقد أمكن السير إلى الأمام  خلال أسبوعين طويلين، وتحقق مطلب أول باستقالة الحكومة، مروراً بالتغلب على تهديدات حزب الله واعتداءاته المتكررة.

محرك الثورة الأول معيشي، يرتبط بتدهور مداخيل وتضاؤل فرص قطاعات متسعة من اللبنانيين، وبنهب فاجر من قبل الطبقة السياسية ومحظييها ومحمييها. وبأثر هذا المحرك سجلت الثورة انتشاراً جهوياً واسعاً من جهة، وكانت عابرة للطوائف من جهة أخرى. هذا غير مسبوق في تاريخ لبنان المعاصر.    

ليس الطريق إلى إسقاط "العهد" والتقدم نحو نظام غير طائفي ممهداً، وقد يُسدُّ بالقوة والدم، لكن هذه أول مرة في لبنان يرى طيف وطني شعبي واسع ومتنوع، يخص بشتائمه ألأقذع السياسيين الأكثر طائفية، والتركيبة كلها: "كلّن يعني كلّن"! و"كلن" تعني النظام بوصفه نظام نهب وفساد وإفقار، كما تعني تركيبته الطائفية.

ملكيّة البلد وحزب الله
الطائفية صمام أمان نظام النهب العمومي في لبنان، وهي التي توفر هوامش حرية ومناورة واسعة لطغم فاسدة عبر سهولة تفريق المنهوبين وتأليبهم ضد بعضهم البعض وضربهم ببعضهم البعض، كما جرى في أوقات سابقة. إفشال هذا المسعى ليس جهداً ناجحاً ضد الطائفية فقط، وليس تضييقاً لهوامش لعب المركب النهبي الطائفي الميليشياوي فقط، وإنما هو الخطوة الأهم نحو استعادة ملكية البلد والمعالجة الجذرية للأزمة الوطنية الاجتماعية المتجددة.

"كلن" تعني أيضاً حزب الله من حيث أنه الميليشيا الحارس للنظام اليوم، القوة المسلحة التي شعرت قبل غيرها بتضيّق مساحة مناورتها، فوضعت نفسها في مواجهة الثائرين، وأظهرت أن بقاء "العهد"، وليس تغييره، هو خيارها. تُعطل المشاركة الشيعية الواسعة عملية نزع وطنية الشيعة اللبنانيين التي يشرف عليها حزب الله عبر شبكة مالية عسكرية عقدية مشدود إلى إيران.

لكن الامتلاء بالنفس، الذي صدر عنه كلام حسن نصرالله منذ البداية، يثير الخشية من مسالك دموية. عبر عقود رفع الحزب نفسه فوق شجرة عالية جداً، وجعل من النزول منها صعباً عليه وعلى أنصاره قبل الجميع. هناك مكون عدمي في تكوين الحزب وتفكيره، يظهر في ميله إلى التعامل مع الصراع الحالي كصراع وجود، مثلما خاض الصراع ضد الثورة السورية. وتبدو "تغريدة" خامنئي يوم 30 تشرين الأول بمثابة أمر عمليات تنفيذي، بالنظر إلى أن الرجل هو "الولي الفقيه"، المسموع الكلمة عند أتباعه، ومنهم نصرالله وحزبه. يقول المرشد الإيراني: "أوصي الحريصين على العراق ولبنان أن يعالجوا أعمال الشغب وانعدام الأمن الذي تسببه في بلادهم أميركا والكيان الصهيوني وبعض الدول الغربية بأموال بعض الدول الرجعية". ما يلفت النظر ليس انتحال الولي الفقيه موقعاً "تقدمياً" لا يُعلم له سند فكري أو واقعي، بل عطف لبنان على العراق في كلامه، وما يضمره هذا العطف من موقع امبراطوري يصدر عنه خامنئي تلقائياً. هذا نذير أقوى بعدُ بمسالك دموية، لا يملك المرء حيالها إلا أن يأمل وجود أصوات عاقلة في بيئة حزب الله وبين صفوفه، أصوات تجد في انفضاض قطاعات مؤثرة من البيئة الشيعية عن سياسة نصرالله ما يشد أزرها في نزع إيرانية الحزب، وفي لبننته.

الغرب.. تحول بنيوي
وفي مواجهة امبراطورية الجماجم الإيرانية، يعرض الوضع اللبناني اليوم خاصية لا يبدو أنها تنال ما تستحق من اهتمام تحليلي: ليس هناك سند أوروبي أو غربي للثورة اللبنانية، ولا حتى تعاطف. القوى الغربية التي كانت تولي الاستقرار دوماً أولوية عليا في الشرق الأوسط، صارت توليه أهمية أعلى بعد. وهذا في ارتباط بكل من "الحرب ضد الإرهاب" و"أزمة اللاجئين". هناك تحول بنيوي في "أوروبا القلعة" وأميركا نحو المحافظة والتثبيت، بخاصة حيال منطقتنا. والتفضيل يتجه نحو ضامني الاستقرار، ولو ميليشيات عنيفة مثل حزب الله، على أوضاع مضطربة، ولو في سياق ثورة سلمية تحررية. يستطيع حسن نصرالله ومرشده الإيراني وبشار الأسد زعم العكس، لكن القوى الغربية تفضلهم كحرس استقرار، وإن لم تحبهم.

على أنه يقف إلى جانب الثورة اللبنانية سوريون وعراقيون ويمنيون ومصريون... توحدهم خبرة "كلنا في الهم شرق".

الحذر واجب
بنظرة عن بعد، يرى المرء مشهد الثورة اللبنانية المتعددة الأصوات، الكثيرة الألوان، الواعدة بلبنان جديد والمفعمة بالأمل، ويلمح المخاطر القاتمة الأحادية الصوت، الداعية للاستسلام والحليفة لليأس تترصد الثورة بالشر. لا يستطيع السوري الذي هو كاتب هذه السطور أن لا يخشى كثيراً. لا تزال الدماء على إيادي الحزباللهيين في سوريا، ولا تزال رائحة الدم في خياشيمهم، وتصور أنهم لن يكونوا دمويين في لبنان لا يبدو لي مما يمكن الركون إليه.

لكن إذا كان الحذر واجباً فإن استمرار احتلال الساحات والسير نحو العصيان المدني والإضراب السياسي العام هو السلاح الأقوى بيد اللبنانيين في وجه سلاح الوكيل الامبراطوري.

لا نعلم ماذا سنقول بعد أسابيع من اليوم أو شهور. الثورات تفاجئ وتخلق المفاجآت، وأعداؤها من ذوي العزم الفاشي قادرون على مفاجأتنا في التوحش. لكن رغم كل المخاطر التي تُخوِّف من الأمل وتشجع على اليأس، فإن الموقع الصحيح هو في الثورة ومع الثورة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024