من قبر شمون إلى ساحة الشهداء: صرخة جنبلاط المخنوقة

منير الربيع

الخميس 2019/10/17

عندما كسب وليد جنبلاط جولة قبرشمون، كان يعلم أنه لم يكسب الحرب، وتنتظره جولات أخرى. هو يقرأ تطورات المنطقة وتحولاتها، ويعلم أن رهاناته خسرت لأسباب عديدة: أولها انعدام الرؤية السياسية العربية، ثانيها قدرة الطرف الآخر على التحشيد والتّراص السياسي، العسكري والشعبي، في مقابل تفسخ المحور الذي راهن عليه. خسارته الرهان وتحولات مواقف الحلفاء خارجياً وداخلياً، لا يعنيان أن خياراته خاطئة. فخياره يتماهى مع تطلعات شرائح واسعة من المجتمعات العربية التي وجدت نفسها مخنوقة مجدداً، ومهزومة. وهو يعلم أن المنتصرين ليسوا بالضرورة على حق.

بلا حلفاء
معروفٌ أن جنبلاط في هذه الحالات يسجّل "موقفه للتاريخ". وهذا قبل البدء بالتفكير السياسي ومواكبة التحولات، والحفاظ على الوجود، والعمل على استيلاد الأوراق التي تبقيه في واجهة الأحداث والتأثير.

ينظر من المحيط إلى الخليج، فيجد نفسه وحيداً: في الداخل لا حلفاء يستند إليهم. لقد انفضوا من حوله، ومن تبقى منهم، كالرئيس نبيه بري، لا بد من مراعاة ظروفه وموقعه وخياراته. خارجياً، الأميركيون يذهبون إلى حوار مع إيران ولا يريدون التصعيد. ضعف الخيارات العربية والبدائل، سيقود دول الخليج أيضاً إلى حوار مع إيران، وقد تكون نهايته تتويجاً "للانتصار الإيراني" ولتغيير جوهري في موازين القوى ينعكس على لبنان.

غضب الشباب
هو ابن مدرسة "احتساب أسوأ الخيارات في السياسة" وبناء الموقف على أساس توقّع الأسوأ. هذه هي معاناته في هذه المرحلة، ومنذ مدة ليست بالقصيرة، بمعزل عن حسابات المصالح والربح والخسارة التي يتخذ مواقفه على أساسها، وبعيداً عن براغماتيته التي قد تدفعه إلى استدارة كبرى للحفاظ على مصالحه.

وعلى الرغم من اتخاذه أخيراً مواقف قال معارضوه إنها تهدف إلى تحصين نفسه أو تعزيز شروطه أو تحقيق مصالحه، إلا أنها عبّرت عن هواجس اجتماعية وسياسية لدى فئات واسعة من الشباب العربي الذي كان لديه أملاً في الربيع. موقفه من سوريا وفلسطين واليمن، إضافة إلى مواقفه من التسوية الحاصلة في لبنان وآلية إدارتها، تحاكي كلها تطلعات الغاضبين والمخنوقين، بصرف النظر عن الحسابات التي يعتبر البعض أنها تدفع جنبلاط إلى رفع السقف.

تعويم الأسد
كان من أوائل من توقعوا الثورات المضادة، وتعويم الأسد الذي تتسابق دول ومحاور على التواصل وعقد الاتفاقات معه، سواء من العرب أو من الأوروبيين والأميركيين، وحتى الأتراك الذين كشف الروس عن التواصل بينهم وبين النظام. والأرجح أن المنطقة الآمنة التي تنجزها تركيا، يقابلها دخول النظام السوري إلى إدلب، على أن ينتقل أهالي إدلب واللاجئون فيها إلى تلك المنطقة الآمنة بدلاً من الانتقال إلى تركيا، التي تكون قد تخلّصت من الكابوس الكردي بمساعدة مباشرة أو غير مباشرة من النظام السوري، على قاعدة تقاطع المصالح التي ترعاها إيران وروسيا. لا شك في أن هذه التطورات تبعث على التشاؤم، أو على الحقد على سخرية الأقدار التي حملت معارضي الأسد كلهم على التواصل معه أخيراً، أو العمل على مصالحته.

إلى الشارع
هنا يجد وليد جنبلاط نفسه وحيداً. تترامى أمامه خرائط وتتداعى، أحلام تذوب، وتوازنات تتهاوى لصالح توازنات جديدة. لم يُمنح فرصة لالتقاط أنفاسه بعد أحداث قبرشمون. وما كان قابلاً لأن يستثمره وحلفاءه سياسياً، إذا ما أحسنوا التدبير، انقلب عليه في ممارسات سياسية، أمنية، خدماتية، وإدارية. رسائل "الانتقام منه" استمرت في الوصول إليه، إلى أن طفح الكيل، فكسر حاجز الصمت الطويل، وعاد إلى الشارع مع حزبه رفضاً لممارسات العهد، والتهديدات، في إشارة واضحة منه إلى أنه جاهز للتصعيد إذا استمر إطباق الحصار عليه. هو هنا لا يراهن على أي متغيرات خارجية. وقد يكون التصعيد لتحسين شروطه، وعودته إلى داخل اللعبة التي يجري إبعاده عنها أو تهميشه فيها.

الاعتراض بحساب
قد لا يطول تحرّك جنبلاط الاعتراضي والتصعيدي. وقد يلجأ الرئيس نبيه بري مع الحريري إلى الدخول على خط التسوية بإرضائه لكسب هدوئه. وهنا قد تنهار أحلام من راهنوا على تحركه أو استشعروا أنها انطلاقة لثورة جديدة. فاتهم أنها تفتقد كل المقومات، طالما أن تيار المستقبل ليس في هذا الوارد، ويتعاطى بواقعية مع الانفتاح على سوريا بذرائع متعددة، اقتصادية، سياسية، أو بطموحات إعادة الإعمار والحرص على البقاء في رئاسة الحكومة.

القوات اللبنانية لا تزال تحاذر التحرك ضد العهد والتسوية على طريقة جنبلاط، وهي أساساً تعتبر أنها غير مضطرة لخوض معركته، لأنه قد يغيّر موقفه عندما تتوفر مصالحه. بعض القوى تنظر هذه النظرة إلى جنبلاط. وكثر يقولون: "مع جنبلاط لا بد من الانتظار للتيقن من ثباته على موقفه، والتأكد من أنه لا يغيّر موقفه عندما تتوافر مصالحه".

تحالف خماسي
قد يكون نفسه قصيراً في المعركة، وعمله في المرحلة المقبلة قد يكون على القطعة، ووفق ما تقتضيه الظروف عند كل محطة ومفصل. لكن الاستسلام ليس وارداً لديه. وأي تحول أو تغيّر في الموقف، يريده أن يكون مرتبطاً بعائد أكبر أو فائدة أوسع. ولا يغيب عن باله أو نظره ما يجري من استيلاد أحلاف جديدة في الداخل، على طريقة التحالف الخماسي الآخذ بالتشكل والذي يقوده حزب الله والتيار الوطني الحرّ، لأخذ البلاد إلى مرحلة جديدة عنوانها سوريا والانفتاح عليها. وموقف باسيل جاء واضحاً بعد لقائه نصرالله، الذي التقى أيضاً رئيس تيار المردة سليمان فرنجية لتعزيز هذا التحالف، ولعدم ترك المجال لأي قوى مناهضة للعهد، ولا للمراهنة على تحالف بين جنبلاط وجعجع وفرنجية وبرّي. ويعمل هذا التحالف على الاستمرار في استقطاب الحريري وجعله أسير معادلتهم، والمحتاج الدائم إليهم للبقاء على رأس الحكومة، أو أن موقعه سيكون مهدداً والبدائل جاهزة.

هذا التحالف، وقيادة حزب الله حملة العودة إلى سوريا، أو إعادة سوريا إلى لبنان، من شأنهما إحراج جنبلاط الذي علت صرخته في تظاهرة وسط بيروت. وهنا ثمة من يقول: صرخة جنبلاط تعلو بهذا الشكل عندما لا يتبقى أحد يصرخ أو يستشعر خطر التحول المقبل على البلد الذي أصبح جزءاً صرفاً من المحور الإيراني، وتعمل إيران وحزب الله على إدارة الأمور فيه بعناية تامة، تماماً كما هي الموازنة بين لقاء نصر الله بكل من باسيل وفرنجية.

الصرخة
عندما يكون لبنان مخلّعاً، ومشرع الأبواب على تدخلات كثيرة، تبرز صرخة وليد جنبلاط، الذي ترتبط مصالحه بالنظام اللبناني، كزعيم لطائفة ترى وجودها الاجتماعي والسياسي والديمغرافي متطابقاً مع النموذج اللبناني المستند على التوازن، وعلى عدم الغلبة. وعندما تكون هناك غلبة لجهة على حساب الآخرين، يشكّل ذلك خطراً على لبنان، وعلى عمق امتداد جنبلاط ونظام مصالحه الذي يقوم على المحافظة على التركيبة. لذلك يكون سيادياً أكثر من اللزوم في الحفاظ على التنوع، كي لا يكون هناك غلبة. ولذلك يستشرس في محطات عديدة للدفاع عنها. منذ الدخول السوري ومواجهة كمال جنبلاط له، إلى مواجهة الدخول الإسرائيلي، وكذلك بعد الانسحاب الإسرائيلي، والذهاب إلى بنت جبيل والمصالحة مع البطريرك صفير، وصولاً إلى 14 آذار وكل مسوغاتها ومقدماتها.

ما يقوله جنبلاط اليوم، هو ليس أنه ضد الاستعمار الجديد، إنما ضد "الاستحمار" الذي يصور ما يجري من دونية لبنانية تجاه سوريا، على أنه في صالح لبنان. لكنه في الحقيقة هو في صالح قوى أخرى على رأسها إيران.

لن تكون للتظاهرة الجنبلاطية مفاعيل سياسية. هي صرّخة تحذير يعبّر بها عن وجوده وتحديد خياراته، معارضاً إعادة المشهد إلى الوراء، أو إلى حقبة صراعات تاريخية، ترتبط بمصلحة إقليمية ودولية لن تمس لبنان في جوهره فحسب، بل تمس المنطقة بأسرها جيواستراتيجياً. ولبنان فيها مجرد ورقة تُباع في لعبة مكشوفة ضمن صفقة تبدأ في الانفتاح على سوريا بقيادة حزب الله، لصالح إيران. وهي صفقة تنطبق على المنطقة كلها، ولا سيما الخليج.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024