الإعلام و"التواصل الاجتماعي" والسلطة: الشتيمة أهم من الاقتصاد

المدن - لبنان

الجمعة 2019/10/04

بين عودة الرئيس عون من نيويورك يوم الجمعة 27 أيلول، وتصريحاته التي أثارت سجالاً سياسياً وإعلامياً، ويوم الأحد 29 أيلول وما شهده من اعتصامات احتجاجية وتظاهرات وقطع طرق وصدامات وشغب، بدا المشهد غير ملائم لصورة "العهد".

فتح السجون
يوم الخميس 3 تشرين الأول، كان موعد الرئيس عون ليعبر عن امتعاضه فقال في مجلس الوزراء: "حق التظاهر لا يعني حق الشتيمة، وحرية الإعلام لا تعني حرية اطلاق الشائعات المغرضة والمؤذية للوطن". وبما يدل على استيائه وشعوره بسوء علاقة الرئاسة مع الإعلام ومع الرأي العام قال عون في مستهل جلسة مجلس الوزراء: "أنا رئيس الدولة وأمثل كرامة اللبنانيين وهيبة الدولة". وبما يبين أنه وضع الإعلام كخصم، طالب من الوزراء "تحمل مسؤولياتكم والدفاع عن الحكومة وشرح ما تقومون به للمواطنين ليكونوا على بينة، ولا يستمعون للشائعات التي تطلق من هنا وهناك".

هكذا، تحولت الجلسة الحكومية إلى مناسبة ليشن "العهد" حملة على كل من ينتقد أداء السلطة.
ففي ختام الجلسة، تلى وزير الإعلام جمال الجراح بياناً جاء فيه "أكد رئيس الجمهورية في بداية الجلسة احترامه مبدأ الحريات وحرية الصحافة والتعبير من ضمن القانون والدستور، الذي ينص على المحافظة على الدولة وهيبتها ومقام الرئاسة والاستقرار النقدي والمالي وعدم الخوض في سجالات تفهم على أنها تقويض لمصلحة الدولة المالية والنقدية. وقد أكد جميع الوزراء مبدأ الحريات، وأن هناك حدوداً في المقابل صانها الدستور ونصت عليها القوانين التي ترعى التعاطي مع هذه الحريات، وخصوصا ما يتعلق منها بالمقامات، لا سيما مقام رئيس الجمهورية والوزراء".

وزير الإعلام والسمعة
هذا الكلام يحاول إقناع الناس أن الأزمة الاقتصادية والمالية وتداعياتها الكثيرة، وكأنها من اختراع الإعلام والصحافة، أو كأنها من صنع المدوّنين والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يقول البيان أيضاً: إن ما أطلق في اليومين الأخيرين من شائعات ألحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد والمالية العامة". طبعاً، تناسى الوزير الجراح (وكل المشاركين في مجلس الوزراء) أن تصريحاً من رأس السلطة من نوع "الحكومة غائبة" أو "لا علم لي بما حدث كنت في نيويورك" ليس من صنع الإعلام ولا فبركة فايسبوكية.

وعندما سئل الجراح : لماذا يتم تصوير الإعلام على أنه المسؤول عما يحصل، فيما هو يعمد إلى نقل الواقع وليس تجميله؟ أجاب: "صحيح أن الإعلام ينقل ما يقوله السياسيون ولا ذنب عليه في ذلك، لكن هناك أمر آخر حيث يجتهد بعض الإعلاميين في تحليل الوضع الاقتصادي والمالي بما يؤثر سلباً على الوضع العام، علماً أن هؤلاء ليسوا بخبراء اقتصاديين أو ماليين ويكتبون أموراً من شأنها الحاق الضرر بالوضع النقدي والاقتصادي للبلد، إضافة إلى شتم المسؤولين من فخامة الرئيس او دولة الرئيس وغيرهما. هذا أمر غير مقبول وهناك علاقة تكاملية ومهمة الإعلامي إيصال الواقع الحقيقي للناس".
لكن عندما سئل "من المعني بالفوضى التي حصلت الاسبوع الفائت"؟ أجاب: "لا أعلم، لكن المؤكد أنه ليس الإعلام، فهناك وزراء ونواب يدلون بتصريحات سلبية عن الأوضاع".

بخصوص الشتائم والقدح والذم فلم تكن في الإعلام، بل كانت في الشوارع، منطلقة من حناجر الغضب على الحال المزرية. وهذا ما اهتمت به السلطة لا بأسباب الغضب. والأزمة هي هنا. في هذه العقلية، التي تريد معالجة أزمة البلد بمعاقبة الصحافة والإعلام وكل مواطن يعبر عن رأيه (وجعه) على صفحات التواصل الاجتماعي. عقلية تهرب من مواجهة الحقائق والاستحقاقات والقرارات.. وتغطي كل مصائب النزاعات والمناكفات بين أطراف السلطة، باللجوء إلى القمع والتخويف والترهيب واستهداف الإعلام.

غرامات رئيس الحكومة
حتى الرئيس سعد الحريري لم يقف ضد مبدأ تحويل الإعلام كبش فداء فشل السلطة، وإن حاول التخفيف من غلواء بعض الاقتراحات بتغيير القوانين لمعاقبة الصحافيين والإعلاميين والمدوّنين بما يتيح معاملتهم كمجرمين وزجهم في السجون.. فاقترح الحريري "هناك الكثير من الناس الذين يطلقون أخباراً كاذبة تُدخلنا في كثير من الأحيان بفوضى وعدم استقرار في البلد. البعض يتجه إلى أن يفرض على هؤلاء عقوبات بالسجن، فيما أنا أقول إنه إذا كنت تريد بالفعل أن تجعل الناس مسؤولين عن كل كلمة تصدر عنهم، فلا تهددهم بالسجن. دول كالاتحاد الأوروبي تفرض غرامات مالية. من هنا، أدعو إلى مقارنة القانون الموجود لدينا بما هو مطبق في الخارج، وحسب الإمكانات المالية لوسائل الإعلام لدينا، تفرض غرامات على هذا الأساس. لكنه ليس طبيعيا أيضا أن يكون هناك أشخاص يعتبرون أنفسهم إعلاميين، يطلقون كلاما من هنا أو هناك. انسوا الهجوم على سعد الحريري، فهذا أمر لا أقف عنده، ولا أذكر أني تهجمت أو رفعت دعوى على أحدهم إلا بالسياسة. لكن في النهاية، إن كان هناك من ضرر على المال العام أو على الدولة، وحتى الهجوم على رئيس الجمهورية يرتب عقوبات حسب القانون، فلتكن هذه العقوبات مالية، وعندها من يريد أن يشتم ولديه بعض المال، فإن خزينة الدولة ستكون هي المستفيدة".

إذا حل أزمة الخزينة العامة هنا، بالإكثار من الغرامات على ممارسي حرية التعبير!!

داخل الجلسة
يبدو الأمر جدياً بقدر جدية مناقشة مشرروع موازنة 2020، إذ اشار وزير الإعلام إلى "وجود مشروع قانون في لجنة الإدارة والعدل النيابية، وكلفت فريق عمل وضع صيغة وتحديد من هو إعلامي ومن هو غير إعلامي، مع التشديد على احترام أصول وآداب المهنة".

وكان الرئيس عون قد استبق هذا المشروع مقرراً أن "الصحف والمجلات يطبق عليها قانون المطبوعات بينما وسائل الإعلام المرئي والمسموع ووسائل التواصل الاجتماعي لا يطبق عليها هذا القانون"!
وحسب ما عُلم من داخل الجلسة الحكومية، فقد تدخلت الوزيرة مي شدياق مدافعة عن الإعلام وقالت: "ما في حبوس تساع كل الناس، كما قالت فيروز والرحابنة. أشدد على حماية الحريات الإعلامية ورفض تقييدها. نحن فخامة الرئيس نكن لك كل الاحترام لك ولموقعك ولكن هناك قوانين تحرم المسّ ببعض المقامات. ولكن حتى أنت لا تريد أن يُسجل انه في عهدك تم قمع الحريات. ولا يمكن القفز فوق القانون الذي وضع في الأساس لحماية الصحافيين". أما زميلها (و"رفيقها" حزبياً) الوزير ريشار قيومجيان فقال: "لا نقبل المساس بهيبة الرئاسة ونحن ضد الشتم وأعمال الشغب وتلفيق الأخبار والكذب، مع ضمان حق التظاهر ضمن القوانين".

الوزير الملاصق للرئيس، سليم جريصاتي قال: "أشدد على أهمية التضامن الوزاري في هذه المرحلة، وعلى الإعلام أن يراعي الأصول والقواعد وعدم نشر أخبار كاذبة وترويج شائعات من شأنها ان تؤذي الاستقرار الامني والسياسي والنقدي، وليس وارداً في ذهن أحد المساس بالحريات أو قمعها". وشرح وزير المال الموقف من موضوع الإعلام، وقال "إنه يستأهل الدرس بهدوء وموضوعية ونرفض التعرض لشخص الرئيس أو الرئاسة، والتضامن الحكومي ضروري، ولكن لا يعني ذلك أن أحدنا يختصر الآخر". وزير الخارجية جبران باسيل علّق قائلاً: "لا مساس بحرية الاعلام، وأدعو الى معالجة ما حصل بجدية، لان الشائعات اثّرت سلباً على الاستقرار النقدي".

الوزير الاشتراكي أبو فاعور دعا "إلى نقاش رصين وهادئ في مقاربة موضوع الإعلام، فلا يظهر وكأننا نسعى إلى التضييق على الحريات. هناك اتفاق عام على هذه الطاولة على عدم المساس بالحريات وأي ضرر يلحق بالبلد لن يميز بين أحد، وكل القوى السياسية تصبح مستهدفة". أما الوزيرة ريا الحسن فقالت: "يجب وضع معايير لما هو نقد ومعارضة سياسية من جهة وما هو تجريح، مع الإشارة إلى أن بعض المحللين الاقتصاديين يتحدثون في الموضوع ويطلقون توصيفات، ففي أي خانة يمكننا وضعها؟"
وزير حزب الله محمد فنيش طالب بتطبيق القوانين، ولفت إلى وجود ثغرات يجب معالجتها، وأن الفلتان في وسائل التواصل الاجتماعي غير مقبول، وهناك حاجة الى ضوابط مع التمسك بحرية التعبير المصونة بالدستور".
أما أفضل ما قيل في الجلسة فهي عبارة الرئيس الحريري: "بعض الوزراء والنواب يدلون بتصريحات تضر بالوضع الاقتصادي والمالي". وهذا ما يختصر كل الموضوع: الافتراء على الإعلام واستضعافه لسترة عورة تخبط الحكم والسلطة، والتهويل على المواطنين وتخويفهم وكبتهم في التعبير عن أحوالهم ورأيهم وسخطهم.

الردود الاشتراكية والكتائبية القاسية
هذا بالضبط ما قاله بيان الحزب التقدمي الاشتراكي: "تستمر السلطة السياسية في لبنان بالتعبير عن ضيق صدر بحرية الرأي، وها هي تلجأ مرة جديدة إلى أساليب القمع وكم الأفواه، فتوعز إلى النيابات العامة بالتشدد في ملاحقة كل من يتعرض بالنقد لرئيس الجمهورية على وسائل التواصل الاجتماعي.. إن تألم أحد المواطنين بالأمس كما كل اللبنانيين من الوضع الذي وصلت اليه البلاد، ومن ضيق العيش في ظل حكم يتلكأ في البحث عن حلول للازمات، لا يستدعي على الاطلاق التوقيف، بل معالجة الأسباب التي حدت به الى كتابة ما يعبر عن وجعه على وسائل التواصل الاجتماعي. إن مفوضية الإعلام (في الحزب التقدمي الاشتراكي) إذ تجدد دعوتها لهذه السلطة للتوقف عن سياسة قمع الحريات العامة، والتفرغ بدلا من ذلك لمعالجة الازمات التي ترهق كاهل المواطنين، تستنكر وتدين كل توقيف لصاحب رأي، وتهيب بالنيابات العامة أن لا تكون أداة طيعة في وجه الشباب الذي يطمح إلى بلد العدالة والمساواة والحرية وتكافؤ الفرص والعيش الكريم".

أما ما لا يقوله الإعلام فقد قاله بحدة النائب سامي الجميّل: "رحيل الحكومة بات ضرورة"، معتبراً أن "السلطة غير قادرة على تنظيف نفسها، خصوصا أننا وصلنا إلى المحظور"(..) "لا أعرف كم يجب أن يحتمل المواطن اللبناني بعد، وفي هذا الوقت السلطة لا تقوم بشيء بل فقط تتقاذف المسؤوليات ويزايد كل واحد على الآخر بدل التضامن والاجتماع ليل نهار لإنقاذ البلد، ويجتمعون مرة في الأسبوع ولا يتفقون بل يحملون المسؤوليات لبعضهم، وإذا لم يجدوا أحداً لاتهامه تحضر نظرية المؤامرة على البلد". وقال "لم تضعوا خطة اقتصادية، لم تنظفوا الادارة من الوظائف الوهمية، لم تقلصوا عدد المؤسسات العامة التي تصرف عليها أموال هائلة، لم تنشئوا هيئات ناظمة، لم تعينوا مجالس ادارة، لم تضبطوا المعابر، لم توقفوا إيجارات المباني وعندما قمتم بذلك عمدتم إلى شراء مبنى بـ90 مليون دولار(...) انتم المسؤولون وتديرون البلد منذ 4 سنوات وقد رأينا نتائج أعمالكم بالأرقام الموثقة، أنتم المسؤولون لا الناس وبالتالي اياكم ان تقتربوا من الناس الموجوعة عندما تعبر عن وجعها.. إستدعاء مواطن إلى التحقيق لانه موجوع ولانه قال انه لم يتمكن من سحب عملة بالدولار، وكل من يفتح فمه يستدعى الى التحقيق.. هل المواطن الموجوع هو من يهدد الاقتصاد أم العمل الذي لا تقومون به وهدر أموال الناس؟" وتوجه رئيس الكتائب إلى رئيس الجمهورية بالقول: "جماعة 7 آب والعهد القديم يجب أن تبعدهم عنك، لأن هذه البيانات التي تصدر بإسمك لا تشبهك، شعرنا أننا عدنا إلى أيام النظام السوري... إذا كان هناك من يجب أن يدخل إلى السجن فبالتأكيد ليس المواطن، بل من أوصله إلى هنا ومن هدر المال العام وسلم قرار البلد وسيادته". ووجه تحية "لكل الشباب وأهلنا الذين نزلوا بطريقة سلمية للتعبير عن الغضب، وكل مواطن يعبر عن رفضه للواقع على مواقع التواصل، وكل شخص يستدعى إلى التحقيق سنضع محامي الكتائب بتصرفه".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024