ليس جورج قرداحي وحده

يوسف بزي

الخميس 2021/10/28

ذات يوم، وكان الوهن قد أصاب حركة 14 آذار، فوجئ جمهورها العظيم وسط بيروت بتنصيب صورة عملاقة للملك السعودي. صحيح أن المملكة داعمة سياسياً ومادياً للقوى السياسية التي تحمل لواء "انتفاضة الاستقلال"، إلا أن حشر الحشود اللبنانية تحت ظلال تلك الصورة بدا نافراً، خصوصاً أن المواطنين اللبنانيين المشاركين في التظاهرة، يتّسمون على الأغلب بثقافة مدنية وديموقراطية، وبتنوع حزبي وفكري، يجمعهم طموح إعلاء الهوية الوطنية والولاء لها، وهم ثابروا طوال تظاهراتهم الشهيرة على التوحد خلف العلم اللبناني وحسب.

أثارت تلك الصورة بلبلة وامتعاضاً، لا لعداوة أو مخاصمة مع السعودية، بل لأن شطراً كبيراً من جمهور 14 آذار لا يستأنس لتقاليد عربية "جماهيرية" تمزج بين هتاف "بالروح بالدم نفديك يا.." وحمل صور الرئيس أو الزعيم أو الملك. ثم أن بعضاً من ميزات هذا الجمهور استنكاره وتنديده بما يفعله بعض اللبنانيين، خصوصاً أنصار حزب الله الذين يثابرون على رفع صور الخميني وخامنئي.. إضافة إلى حلفائهم، أولئك الذين يرفعون صور بشار الأسد. فبدا أن انضواء مؤيدي 14 آذار المباغت تحت صورة الملك السعودي، يقلل كثيراً من تمايزهم عن جموع 8 آذار. والأهم من كل هذا، انكشاف هشاشة الولاء الوطني وسهولة الاستتباع والاستلحاق. وانعدام التمييز بين التحالف أو التفاهم والتبعية والتزلف والاسترضاء.

التيار الوطني الحر، أو العونيون، ومنذ تحالفهم مع حزب الله ومخاصمتهم للحريرية، ومن ثم استنساخهم أدبيات "قومية سورية" لصوغ نظرية "حلف الأقليات" انحيازاً لحرب الإبادة الأسدية، عبّروا كثيراً عن أحقاد سحيقة ضد العرب والعروبة، وعلى نحو شديد العنصرية، إن تجاه السوريين أو الفلسطينيين أو أهل الجزيرة العربية. وأظهروا ذلك في مناسبات كثيرة، منها رفع صور القادة السعوديين مذيلة بشعارات عدائية ومسيئة على أبرز الطرق العامة، عدا ما كان تلفزيونهم يجود به من ابتذال عنصري وتنويعات كراهية. وتزامن هذا مع أعنف الخطابات والحملات الإعلامية التي شنها حزب الله وأمينه العام على دول الخليج، إضافة إلى تراكم الاتهامات والوقائع التي تُظهر تورط الحزب في الاضطرابات الأمنية هناك (البحرين مثلاً)، وفي الحرب اليمنية خصوصاً.

وهذا ما أدى إلى إلحاق أفدح الأضرار بمصالح اللبنانيين، وبالاقتصاد الوطني، وخرّب علاقات لبنان الوثيقة بأشقائه وشوّه سمعته، عدا عن تبديد واحد من أهم أرصدة لبنان التاريخية بوصفه القاطرة الثقافية لمحيطه وأقرانه من الدول العربية. رصيد هائل راح يتبخّر، لبلد شكل النموذج العصري في السياسة ونظم الإدارة والإعلام والتعليم والثقافة والفنون ونمط العيش، ومنحه "الدور" و"الوظيفة" بل ومنح اللبنانيين شيئاً من التفاخر والتباهي، وفي أحيان كثيرة الأفضلية بالاستحواذ على أفضل فرص العمل والمناصب في الدول العربية، لا لشيء بل لأنه "لبناني" وحسب، الذي كانت صورته في أذهان الخليجيين خصوصاً، ذاك المثقف والعصري الذي يجيد اللغات والراقي لغة وسلوكاً والرفيع المستوى علماً ومهارة والمبادر والعملي والخلاق.

كل هذا تبدد سريعاً وعلى نحو كارثي، وأظهر اللبنانيون في سنوات قليلة الجانب القبيح فيهم ومدى الانحطاط الذي أصابهم.

في المقابل، التزلف والاسترضاء الذي ثابر عليه خطاب المتوددين لبعض الدول العربية والخليجية، وصل إلى حد أن أصحاب الشأن أنفسهم باتوا يتململون من قلة وقار المتزلفين.

في كل الأحوال، ما نحن فيه هو فقدان احترام الذات. لذا، يستسهل رئيس وزراء لبنان القول أن بوصلته وقبلته السياسية هي السعودية (ناهيك عن أرشيف تصريحات سعد الحريري السعودية). وهذا يتيح أيضاً لبلاهة تصريحات وزير الخارجية السابق شربل وهبة المغمسة بثقافة عنصرية شديدة الضحالة.

أجاد حزب الله في عداوته المذهبية والأيديولوجية للدول العربية، في سلخ لبنان عن عالمه العربي وجرّه بعيداً نحو إيران، مغترباً عن تاريخه وهويته ومصالحه وثقافته وعقيدته الدبلوماسية. وأجاد التيار العوني، خصوصاً مع قاموس جبران باسيل، في إحياء نعرات دينية وعرقية وثقافية مضادة تماماً لخيار مسيحيي لبنان منذ عصر النهضة وما أنجزوه من حضور بالغ التميّز في العالم العربي. وأجاد النظام السوري في تجذير الحقارة السياسية عديمة الأخلاق حيث "العلاقات الدبلوماسية" على صورة وضاعات مكاتب عنجر ومفارز المخابرات..

وعلى هذا المنوال، ليس جورج قرداحي وأشباهه التلفزيونيين، المتقلب من متزلف القنوات الخليجية إلى موالٍ لنظام الإجرام البعثي، فوزير إعلام منتدب من بشار الأسد.. إلا التجسيد الأخير للبنان الراهن.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024