17 تشرين وسنة الدم المسفوك: خمسة شهداء و1500 ضحية

نادر فوز

السبت 2020/10/17
بين 17 تشرين الأول 2019 و17 تشرين الأول 2020، سجّلت الدوائر الحقوقية في لبنان توقيف واستدعاء ما لا يقلّ عن 1500 ناشط وناشطة من مختلف المناطق اللبنانية، وفي مناسبات مختلفة. وحسب الأرقام التي تقدّمها لجنة المحامين للدفاع عن الناشطين في لبنان، تم تسجيل 944 توقيفاً واستدعاء بين تشرين الأول وآذار الماضي. والباقي بين آذار وتشرين. مع العلم أنّ حركة التوقيفات والاستدعاءات مستمرّة إلى اليوم، لأسباب متنوّعة، تبدأ بقطع طرقات وتنتهي بالاعتداء على الأملاك العامة والخاصة، مروراً بالمنشورات الإلكترونية.

يوضح ذلك أنّ السلطة اللبنانية لم تتعلّم بعد أنّ ممارسة القمع والاستفحال في استخدامه يؤجّج حال النفور منها ومن أدائها. ويوضح ذلك أيضاً أنّ السلطة أخذت اللبنانيين إلى نظام بوليسي متكامل، يبدأ بممارسات مجموعات التشبيح الحزبية ولا ينتهي في أقبية التوقيف الرسمية.

سيرة العنف
طوّرت السلطة اللبنانية وقواها الأمنية أساليب القمع سريعاً. بين 17 تشرين الأول وأواخر تشرين الثاني، كانت قوى مكافحة الشغب قد استنفدت كل مخزونها وأساليبها لقمع المحتجّين، بالغاز المسيل للدموع والهراوات والملاحقات وإقفال المناطق. فلجأت بعدها إلى المؤسسة العسكرية التي عملت على التعامل بضراوة مع حالات الاحتجاج وقطع الطرق سلمياً. وبين السيناريوين، تكفّلت مجموعات الشبيحة التابعة لأحزاب السلطة بممارسة البلطجة. وفي مسار القمع السلطوي، سجّلت ليلة 16 كانون الثاني الماضي أولى عمليات السحل في شوارع بيروت، على مدخل شارل حلو. وبعدها بأسابيع، باشرت بعدها القوى الأمنية باستخدام الرصاص المطاطي لتفريق الناس، ومن ثم طوّرت هذه الأداة لتصويبها على الرؤوس والعيون والأعناق والصدور في خرق واضح لكل المعايير الدولية والإنسانية في التعامل مع الاحتجاجات.

فصل الخردق
وبعد أقلّ من ستة أشهر، استخدمت أجهزة أمنية الخردق وبنادق الصيد مباشرة على المتظاهرين. حتى أنّ عناصر فيها لجؤوا إلى إطلاق الرصاص الحيّ، وهو ما وثّقته منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقاريرها لشهر أب الماضي. حصل ذلك، بعد جريمة 4 آب. فمن لم يصب بالتفجير، لاحقته عناصر أمنية بين ساحة الشهداء والصيفي، كما سجّل استخدام قنابل خردق للمرة الأولى في الشهر نفسه. وحسب منظمات حقوق الإنسان، استخدمت الدولة اللبنانية قوة مفرطة وقاتلة في بعض الأحيان ضد المدنيين العزّل. وعدا الخردق والرصاص الحي والمطاطي، أطلقت القوى الأمنية قنابل الغاز المسيل للدموع مباشرة على الجموع. كما أساءت استخدام بعض أصناف هذه القنابل، التي تفرض المعايير رميها عن بعد مئات الأمتار. فأطلقتها على سيارات إسعاف ومسعفين. قوى مكافحة الشغب وحرس مجلس النواب، مسؤولان مباشران عن كل هذه التجاوزات. كما نفّذت بعض الأفواج العسكرية تجاوزات عديدة أخرى لجهة إطلاق النار في بيروت والمناطق. استفحلت السلطة في الدفاع عن نفسها، بشتّى الوسائل. لكن للبلطجة والتشبيح روايتهما وسيرتهما أيضاً في مختلف المناطق اللبنانية.

القمصان السود
في عام أدّت أحزاب السلطة، في الحكومة والبرلمان، دور البلطجة بامتياز. بدأ نموذج التشبيح بالظهور في الأسبوع الأول من انطلاقة الثورة. بعد أن عجزت قوى مكافحة الشغب عن ردع الناس وفض اعتصاماتها في بيروت ومختلف المناطق، نزل "قمصان سود" إلى ساحتي بيروت. ضربوا الناس، أحرقوا الخيام، كسّروا معدّات الصوت، اشتبكوا حتى مع العناصر الأمنية التي تقف إلى جانبهم في عملية قمع الجموع. كان الدافع الأساسي، "السيّد حسن نصر الله غير كل الزعماء". إلا أنّ الهدف الفعلي من كل هذا التطويع، التأكيد لرئيس الحكومة حينها سعد الحريري أنّ الأرض تحت السيطرة ولا داعٍ للسير في الاستقالة. وفي هذه الحركة أيضاً رسالة إلى الحريري وسائر مكوّنات السلطة أنّ الأمور متّجهة إلى فوضى عارمة في الشارع: فتمسّكوا بالقرار والسلطة والمناصب واتركوا قمع الناس علينا. وعادة ما تنجح رسائل مماثلة في كبت أي جموح سياسي خارج عن إرادة الحزب، إلا أنّ هذا لم يحصل فعلياً في تجربة 17 تشرين، فاستمرّت التحركات، لا بل توسّعت.

تطوّر طبيعي
بعد 3 جولات من التشبيح  في بيروت، سقطت حكومة الرئيس الحريري. استقال الرجل رافضاً أن يراق دم الناس في الشوارع وهو في السلطة. فطوّرت حركة "القمصان السود" نفسها، واتّخذت شكلاً جديداً عرف باسم الـ"شيعة شيعة". سمّيت نشاطات هؤلاء في البلطجة والتشبيح أيضاً باسم "شباب الخندق" زوراً، على اعتبار أنّ مواقف متتالية صدرت عن رجال دين وأهالي "الخندق الغميق" تؤكد أنّ أبناء الحيّ غير معنيين بما تقوم به مجموعات من الشبان تأتي من الضاحية الجنوبية. تعدّدت الأسماء والأشكال، إلا أنّ المنطق بقي على حاله. هم الـ"شيعة شيعة"، أنصار حزب الله وحركة أمل، الذين تفرّغوا لضرب ثورة 17 تشرين أينما تيسّر لهم ذلك. فنقلوا تشبيحهم أيضاً إلى مناطق الجنوب، وتحديداً صور والنبطية وكفررمان، وبعدها إلى بعلبك والفاكهة. واستمرّت حركة التشبيح حتى آخر التحرّكات الفعلية يوم 6 حزيران، حين فجّر جمهور الـ"شيعة شيعة" فتنة أهلية على 3 محاور، الرينغ-مونو-راس النبع، قصقص-الشياح، وعين الرمانة-الشياح.

تعميم البلطجة
بلطجة الثنائي لم تتوقّف عند حاجز الهجوم على الجموع، بل وصلت إلى حدّ الاستفراد بالناشطين. وكما حزب الله، نفّذت سائر الأحزاب الأخرى السياسية نفسها. انقضّ أنصار التيار الوطني الحرّ على المحتجّين في أكثر من مناسبة، في جل الديب وجونيه وبعبدا والحدث. وأنصار الحزب التقدمي الاشتراكي في عاليه وقرى الشوف. وأنصار القوات اللبنانية في جل الديب، وتيار المستقبل في وسط بيروت. حتى صغار القوم، الوزير السابق مروان خير الدين، نفّذ مرافقوه سلسلة اعتداءات على صحافيين وناشطين. أوّلهم الزميل محمد زبيب، ثم الناشط ربيع الأمين وبعده المحامي والناشط واصف الحركة. فعمّمت المنظومة الحاكمة منطق البلطجة الموصوفة في كل المناطق والميادين. وكرّست السلطة نفسها، ميليشيات الحرب ومافيات السلام وبلطجيي الانتفاضة.

خلاصات القمع
من خلاصات التقارير والبيانات الصادرة عن لجنة المحامين ومنظمات غير حكومية معنية بحقوق الإنسان، أنّ ما يقارب 1000 شخص تعرّضوا للعنف في الساحات العامة أثناء التحرّكات أو في أماكن احتجازهم. كما قارب عدد المتظاهرين الذين تعرّضوا لإصابات خلال التظاهر الـ800. وتوزّعت المسؤولية عن هذا العنف على أجهزة أمنية مختلفة، وبنسب متراوحة، بين قوى الأمن الداخلي ومكافحة الشغب والجيش والمخابرات العسكرية وشرطة مجلس النواب ومجموعات البلطجة الحزبية. أما أنواع الإصابات، فتعدّدت في مختلف أنحاء الجسد. منها ما أدى إلى ضرر دائم واستوجب الخضوع لعلميات جراحية، نتيجة الإصابة بالرصاص المطاطي في الرأس والصدر وفقدان النظر، أو الخردق في الجمجمة والرئة والقلب، والكسور والارتجاجات في العامود الفقري والرأس والوجه مختلف أنحاء الجسم، وانخفاض القدرة على السمع، إضافة إلى الرضوض والكدمات والجروح الطفيفة الأخرى.

ملاحقات وتوقيفات
من بين 1500 ناشط وناشطة، أوقفوا أو استدعوا إلى التحقيق في عام واحد، تعرّض ما لا يقل عن 220 من الموقوفين للعنف. 661 تعرّضوا للعنف في الساحات أو أماكن الاحتجاز، بحسب لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين، فقط بين تشرين 2019 والأول من آذار. وعلّ أبرز تلك الحالات، الموقوفين الخمسة في صيدا الذين تعرّضوا للضرب والتعذيب بالكهرباء. مع تسجيل المحامين خروق فاضحة للقانون اللبناني والمعايير الدولية أثناء احتجاز الناشطين، وأبرزها عدم تطبيق المادة 47 من أصول المحاكمات الجزائية لجهة منع الموقوفين من الاتصال بذويه وبمحامٍ وبالكشف الطبي وحضور مترجم عند الحاجة. وتستمر الملاحقات الأمنية إلى اليوم، في ملفات مختلفة، أبرز عناوينها قطع الطرق ومعاملة رجال الأمن بالشدة ومنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي.

في ثورة 17 تشرين، سقط شهداء. حسين العطار، أحمد توفيق، علاء أبو فخر، عمر زكريا وفواز فؤاد السمّان. سقط هؤلاء بسلاح شرعي وآخر متفلّت. ففي الدولة البوليسية، تتكامل أدوار الأمن الرسمي والحزبي والقضائي.  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024