استقالة رئيس المحكمة العسكرية تربك الدولة.. وترامب يفضح الحكومة

المدن - لبنان

الجمعة 2020/03/20

أحال رئيس الحكومة حسان دياب محاكمة الفاخوري "إلى السماء"، بعدما غرد: "حقوق الشهداء والأسرى المحررين لا تسقط في عدالة السماء بمرور الزمن".

على أي حال، أحدثت استقالة العميد الركن حسين عبد الله من رئاسة المحكمة العسكرية الدائمة، صدمة في الأوساط القضائية والسياسية، وأربكت الدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها. وهي تكاد توازي صدمة تبرئة العميل عامر الفاخوري وإطلاق سراحه. وزادت من تلبّد المشهد القضائي الذي تداخلت فيه كلّ عوامل الضغوط السياسية والشعبية وحتى الدبلوماسية، التي تخطّت جغرافيا البلد الصغير، وذهبت بعيداً لتبلغ مركز القرار الأميركي وتطرق باب البيت الأبيض، بعدما فضح الرئيس دونالد ترامب الطبقة السياسية في لبنان، خصوصاً وجهها الممانع، عندما شكر في تصريح علني الحكومة اللبنانية على تعاونها في قضية عامر الفاخوري.

خسائر فادحة
صحيح أن صفحة "تحرير" الفاخوري طويت، بمجرّد نقله من السفارة الأميركية إلى قبرص من دون المرور عبر الأمن العام اللبناني، ولا حتى إخطار أي من مؤسسات "الدولة المقاومة" وسيادتها، في تحدّ واضح، أو بالأحرى استخفاف غير مسبوق، فإن استقالة العميد عبد الله، ستفتح صفحة جديدة من السجال، وتضع أي عميد سيشغل هذا المنصب لاحقاً، أمام حصار سياسي سيلحق بالعدالة ومضمونها أفدح الخسائر، ويعيد من جديد الطرح والنقاش، حول جدوى استمرار المحاكم الاستثنائية، وخصوصاً المحكمة العسكرية، التي خرجت عن وظيفتها الحقيقية، وأعطيت صلاحيات فضفاضة في زمن الوصاية لتأدية مهمّة قمع كلّ معارضي مركز القرار في عنجر والبوريفاج يومذاك، ثم تعززت هذه الصلاحية مع إحكام الوصاية الإيرانية المتمثلة بـ"حزب الله" قبضتها على لبنان.

تخوين قاضٍ
استفاق اللبنانيون صباح الجمعة 20 آذار على خبر استقالة رئيس المحكمة العسكرية، حين وضع العميد حسين عبد الله قرار تنحيه بتصرّف قائد الجيش العماد جوزف عون، وأصرّ على ذلك، ليصبح بتصرّف القيادة إلى حين تعيينه بمنصب جديد، وجاء في كتاب الاستقالة "احتراماً لقسمي وشرفي العسكري، أتنحى عن رئاسة المحكمة العسكرية، التي يساوي فيها تطبيق القانون إفلات عميل، ألم أسير وتخوين قاض". وقد أصرّ العميد عبد الله على قرار التنحي، على أن يقوم (عبد الله) بتسيير الأمور الإدارية في المحكمة العسكرية إلى حين تعيين البديل عنه وتسلّمه مهامه رسميّاً، فيما يتولى الشؤون القضائية مؤقتاً رئيس المحكمة الرديف، وهي صلاحيات ضيقة تتلّق بعقد جلسات للجرائم الجنحية، والبت بإخلاءات السبيل، وغيرها من المعاملات الروتينية.

شهادة الحقّ
وعلى أثر إعلان تنحي العميد عبد الله، غرّد مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس على حسابه على "تويتر" قائلاً: "لا يسعني أمام خبر تنحي العميد حسين عبد الله عن مهامه لدى المحكمة العسكرية، الّا أن أشهد شهادة الحق، طوال هذه الأشهر الطويلة التي خبرته فيها من شجاعة بمواجهة ملفات الإرهاب، ومناقبية عالية وتضحية متواصلة وقوة صامتة دونها البطش، ووداعة إنسانية قل نظيرها.. لن نقول دواعا إنما الى اللقاء". ولعلّ ما دفع جرمانوس إلى هذه التغريدة، شعوره بأن الظلم الذي لحق العميد عبد الله سبق وأصابه، خصوصاً عندما عاند مفوض الحكومة السلطة السياسية في ملفات عدّة، كان أوجّها في مرحلة ملاحقة ناشطي الثورة، حين رفض توقيفات عشوائية، يراد منها ترويض الحراك الشعبي وإخضاعه بالمطاردات الأمنية والملاحقات القضائية.

تبعات سياسية
الحملة السياسية والإعلامية التي تبعت قرار الافراج عن الفاخوري، لا يزال صداها يتردد في أروقة المحكمة العسكرية، بما أدى إلى ارباك الأخيرة في التعاطي حيال ملفات حساسة أخرى، وقد رفضت مصادر المحكمة العسكرية "تحميل العميد عبد الله وهيئة المحكمة أي تبعات سياسيّة لقرار كف التعقبات عن الفاخوري وإطلاق سراحه". وأكدت المصادر لـ"المدن"، أنّ "أصحاب هذه النظريات يروّجون لها رغم عدم معرفتهم بوقائع الملف"، نافية الرواية التي "تتحدّث عن أنّ المحكمة العسكرية أصدرت قرارها بكفّ التعقبات عن الفاخوري وإطلاق سراحه قبل شهر من موعد محاكمته، أو أن القرار جاء بضغوط سياسية تترجم الضغوط الأميركية على الحكومة اللبنانية، وهو ما أثار الالتباس وأضفى مزيداً من الضبابية على الملفّ".

تقريب المحاكمة
وبخلاف كل الروايات التي سيقت حول هذا الملف، قدّمت مصادر المحكمة العسكرية الوقائع الثابتة لما حصل بالتواريخ والمعطيات، وشرحت لـ"المدن" الرواية الرسمية بالقول "إن المحكمة وفور تسلّمها ملف الفاخوري غداة صدور القرار الاتهامي، حدّدت بالفعل موعداً لمحاكمته في 16 نيسان (أبريل) المقبل، إلا أنّ وكلاء الدفاع عن المتهم وبعد مراجعات عديدة، تقدموا بدفوع شكليّة مرفقاً بطلب لتقريب موعد جلسة المحاكمة بسبب الوضع الصحّي للفاخوري، وبالفعل حُدّد موعد الجلسة أولاً في الخامس من شهر آذار الحالي، لكنّ المحكمة لم تعقد جلسات يومها لتعذّر سوق جميع الموقوفين بسبب الإجراءات الاحترازية الناجمة عن وباء "كورونا"، فأرجئت الى 12 آذار، فتعطّلت أيضاً الجلسات للسبب عينه".

معلومات محددة
فور وصول الملفّ إلى المحكمة العسكرية بادرت الأخيرة بحسب مصادرها، إلى النظر فيه وشددت على أن "هيئة المحكمة كانت أشبعت ملفّ الفاخوري درساً ونقاشاً وتدقيقاً، وطلبت معلومات محددة من مديرية المخابرات الجيش ومن المديرية العامة للأمن العام، كما ناقشت حكماً كان صدر في العام 2001 عن المحكمة العسكرية برئاسة العميد ماهر صفي الدين بنفس الجريمة المتهم فيها الفاخوري، وهي قتل مواطنيين، فتبيّن أنّ المحكمة أدانت العميل أنطوان الحايك بقتل المعتقلين إبراهيم أبو عزّة وبلال السلمان عمداً، بعد رميه قنبلة دخانية سامة داخل زنزانتهما (وهي الواقعة الجرمية نفسها التي يلاحق على أساسها المتهم الفاخوري في الملفّ الراهن، والتي لم يلاحق فيها سابقاً مع العميل أنطوان الحايك)، ولفتت المصادر إلى أن "محاكمة الفاخوري بهذا الجرم بدأت في العام 2019، أي بعد انقضاء 19 عاماً على تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي في العام 2000 ، وبعد مرور 30 عاماً على جريمة القتل وأكثر من 20 سنة على محاولة القتل، وبالتالي بعد ما يزيد عن العشر سنوات، فتكون دعوى الحق العام سقطت بما خصّ هذين الجرمين عملاً بأحكام المادة 10 من قانون أصول المحاكمات الجزائية".

حملة التخوين
أمام هذه المعطيات لم يكن بإمكان المحكمة تأجيل البت بهذا الملف، وفق تعبير المصادر نفسها، التي أوضحت أن "المحكمة حدّدت جلسة للمحاكمة في 16 آذار، وبعد مذاكرة استغرقت ساعات طويلة، بتّت بالدفوع واتّخذت القرار بالإجماع بكفّ التعقبات عنه، وهو قرار قضائي صرف، بعيد عن كلّ الحسابات السياسيّة. وعلّقت على الحملة السياسية التي طالت المحكمة العسكرية ورئيسها". وقالت "إنّ اتخاذ قرار قضائي بحت من دون أي ضغوط أو تأثير داخلي أو خارجي هو الذي أزعج الأحزاب القوى السياسية التي ذهبت إلى حدّ تخوين محكمة برئيسها وكامل أعضائها، لا لسبب الّا لأنها قاربت الملف ببعده القانوني، وتحمّلت مسؤولية قرارها رغم معرفتها بحساسية الملف والتبعات التي ستنجم عنه، وهذا ما أفقد بعض الأحزاب وجيوشها الالكترونية صوابها، وجيرت حملتها على رئيس المحكمة بشكل خاص".

الملحقّ العسكري وأكاذيبه
وربط مراقبون بين ما تردد عن إمكانية تعيين العميد عبد الله ملحقا عسكريا في السفارة اللبنانية في المانيا على ان يستفيد ماديا من آخر سنة في خدمته ويتسلم مهامه كملحق مكان ضابط شيعي من البقاع، وبين تبرئة الفاخوري وقرار الاستقالة. وأكدت مصادر مقرّبة جداً من العميد عبد الله لـ "المدن"، أن "هذا الكلام محض كذب وافتراء". وقالت "ليس صحيحاً أن العميد عبد الله سيعين ملحقاً عسكرياً في ألمانيا، لأن مراكز الملحقين العسكريين ألغيت، وبقيت فقط في الدول العظمى"، مذكرة بأن "قرار إلغاء الملحقين العسكريين صدر قبل الحكم على فاخوري بوقت طويل، ويكفي ضخّ الأكاذيب التي تنال من كرامات الناس".

جرمانوس يستغرب
الى ذلك استغربت مصادر مقرّبة من مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس، الهجوم الإعلامي والسياسي المباشر وغير المباشر على النيابة العامة العسكرية. ورأت أنّ "هذه الحملة تقع في غير مكانها وكأن المطلوب تقديمها (النيابة العامة) "كبش محرقة" في هذا الملف". وذكّرت أن "النيابة العامة العسكرية هي التي أمرت في البداية بتوقيف الفاخوري وادّعت عليه وطلبت إصدار مذكرات توقيف بحقه". ولفتت مصادر جرمانوس إلى أن "النيابة العامة العسكرية، هي التي أعدت مطالعة بالأساس، طلبت فيها اتهام الفاخوري بالجرائم المستندة اليه في القرار الاتهامي، كما أقدمت على تمييز قرار المحكمة العسكرية الدائمة عملاً بمبدأ وحدة النيابة العامة التي لا تتجزّأ".

من هو العميد حسين عبد الله؟
كلّ من يعرف العميد حسين عبد الله عن قرب، يدين له بدماثة أخلاقه وتفانيه في العمل، إذ سجّل هذا الرجل علامة فارقة خلال ترؤسه للمحكمة العسكرية على مدى أربع سنوات، فكان منسجماً إلى أبعد الحدود في تعاطيه مع زملائه في هيئة المحكمة، حتى الضباط الذين هم أدنى منه رتبة، وأبدى مرونة في مخاطبة المحامين سواء لدى مراجعاتهم له في مكتبه أو مرافعاتهم أمام قوس المحكمة، لم يسبق له رغم سلطته أن نهر موقوفاً أو وبّخ متهماً بمن فيهم الملاحقون بجرائم إرهابية، أما أحكامه توازن بين الشدّة لمن يثبت تورطهم في عمليات إرهابية والقتال ضدّ الجيش اللبناني وتهديد أمن الدولة، والمرونة حيال من ساقتهم ظروفهم القاسية إلى لتوقيف والمثول أمام قوس المحكمة، وهنا كان يبرز الجانب الإنساني في شخصية العميد عبد الله، الذي لا يتردد في دعوة الموقوف أو وكيله القانوني، إلى تقديم طلب إخلاء سبيل لينهي مأساته داخل هذا داخل السجن أو ذاك.

عتب ومحبّة
ولم يتوقع عارفو العميد عبد الله ومحبوه، أن تنتهي مسيرته الحافلة بملفّ العميل عامر فاخوري، ويقول هؤلاء "كان يفترض بالعميد عبد الله الذي يدرك مدى خطورة هذا الملفّ وحساسيته، أن يتنحّى عن النظر فيه، ليس لشيء، بل لأنه ابن بلدة الخيام التي اختار العدو الإسرائيلي بناء أسوأ معتقلاته فيها، وجرى التنكيل بأبناء الجنوب في مسقط رأس عبد الله". ورأوا أنه "كان الأحرى به أن يتنحّى عن النظر في هذا الملف فقط، ويعيّن مكانه رئيس آخر يحاكم الفاخوري في هذا الملفّ، حتى لو انتهى الأمر إلى نفس النتيجة التي خلص اليها عبدالله، حتى لا يتحمّل هو تبعات ردّات الفعل حول هذه القضية التي تمثّل محطة مظلمة في حياة اللبنانيين عموماً والجنوبيين خصوصاً". وذكر هؤلاء بأن "استقالة عبد الله من رئاسة المحكمة العسكرية لا يعني استقالته من الجيش، وأن إمكانية تسلّمه منصباً جديداً يبقى رهن العوامل السياسية التي ستقود اليها قضية الفاخوري عاجلاً أم آجلاً".

محاكم الطوارئ
وأعادت قضية الفاخوري إلى الواجهة البحث في جدوى استمرار المحاكم الاستثنائية، خصوصاً المحكمة العسكرية التي خرجت عن دورها، الذي كان محصوراً بمحاكمة العسكريين الذين ارتكبوا جرائم خلال وظيفتهم، أو بالجرائم التي تقع على العسكريين أثناء تأدية مهمتهم.

ويعترف كبار رجال القانون، أن أي بلد يسوده حكم القانون ومفهوم العدالة، لا يمكنه أن يستمرّ في محاكم الطوارئ، المعتمدة في الأنظمة الشمولية. ويرون أن المحكمة العسكرية أعطيت صلاحيات واسعة، تتعدى دورها وإمكانياتها، بحيث أوكلت اليها الجرائم الواقعة على أمن الدولة، وملفات الإرهاب والتعامل مع العدو ودول أجنبية، حتى أنها في بعض الأحيان استنسبت في محاكمة صحافيين وإعلاميين، إذا ارتأت أن مقالاتهم أو آرائهم تمسّ المؤسسة العسكرية أو الأمنية. ولعلّ ما يسري على المحكمة العسكرية ينطبق على المجلس العدلي الذي ترتفع وتيرة المطالبة بإلغائه، طالما أن أحكامه مبرمة وغير قابلة للطعن أو المراجعة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024