معركة مخيم المية ومية.. إصبع حزب الله وأموال الأونروا

منير الربيع

الجمعة 2018/10/26
عاش أهالي صيدا والجوار ما كانوا قد سمعوه واختبروه في معركة بلدة عبرا في العام 2013 للقضاء على تمرد أحمد الأسير وعصبته. هذه المرة كان مخيم المية ومية ومحيطه هو مسرح المعركة. أجواء حرب حقيقية تسيطر على المنطقة. أصداء الرصاص والقذائف الصاروخية هيمنت على الأرجاء، حتى أنها طغت على رّعود العاصفة التي ظللت المدينة. فارتعد أهلها، وهرعوا إلى منازلهم، خوفاً واحتساباً.

ليس ما جرى في مخيم المية ومية بين حركة فتح وأنصار الله وليد ساعته. عوامل الصدام والاحتقان كانت تتراكم، وتُفاقِمها اعتبارات سياسية.. ومالية.

ميدانياً، ينقسم المخيم إلى ثلاثة أجزاء، على قاعدة تقاسم النفوذ والهيمنة المسلحة. جزء خاضع لسيطرة حركة فتح، وجزء آخر تسيطر عليه حركة حماس، فيما الجزء الثالث تسيطر عليه جماعة أنصار الله التي كانت على تحالف مع حزب الله، إلى أن ظهرت الخلافات والتباينات بينهما.

يوم دخلت حركة أنصار الله إلى المخيم، بدعم من حزب الله، قبل حوالى عشر سنوات، كانت غاية الحزب من ذلك استراتيجية. إذ يومها كان هناك تخوف فعلي من أي تحرك في المخيمات الفلسطينية ضد حزب الله قد يقطع طريق الضاحية– الجنوب، على خلفية تصاعد التوتر السنّي- الشيعي في لبنان.

في سياق هذه الاستراتيجية، التي استهدفت معظم المخيمات الفلسطينية، قبل حرب مخيم نهر البارد وبعدها، شهدنا الكثير من الأحداث العنيفة والعمليات الأمنية الغامضة والصدامات الدموية، وصولاً إلى التفجيرات والاغتيالات، من مخيم برج البراجنة إلى مخيم عين الحلوة.

في العام 2009 اغتيل القائد الفتحاوي، غير المحب للظهور، كمال مدحت، بعيد خروجه من مخيم المية ومية. مدحت كان ممسكاً بزمام أوضاع المخيم، والقادر على بسط سيطرة حركة فتح عليه. والواضح، أن اغتياله شرع أبواب المخيم لتتحول خريطته إلى حقل التجاذب المشهود حالياً، والذي لطالما شهده المخيم في كل المراحل السابقة.

بعيد اغتياله ضعفت قبضة فتح، فيما استطاع حلفاء حزب الله الدخول إلى المخيم بقوة. كانت هذه هي نقطة التحول، لما يمثّله هذا الدخول من إنجاز أمني استراتيجي في المعطيات الميدانية هناك. بالمعنى العسكري البحت، نجح "حزب الله بالسيطرة نارياً على مخيم عين الحلوة، إذ إن ميزة مخيم المية ومية الجغرافية أنه يطلّ من علٍ على عين الحلوة ويكشفه. وتزامنت هذه السيطرة "النارية" مع استيلاء فصائل مسلحة مماثلة ومستتبعة للحزب على نقاط في حي التعمير بمخيم عين الحلوة نفسه.

هكذا وقع المخيم الكبير بين فكي كماشة. الخاصرة الغربية أي حي التعمير، والجهة الشرقية أي مخيم المية ومية.

يجب الإقرار أن حزب الله نجح على نحو باهر، طوال الفترة الماضية، بتفكيك أي فعالية للمجموعات الإسلامية المسلحة في تلك البؤر، والتي كان يمكنها أن تعكّر عليه صفوه، خصوصاً بعد تصفية ظاهرة أحمد الأسير. لقد حقق حزب الله غايته بتأمين طريق الجنوب الحيوي. تبدد الخطر وانتفى مصدر القلق. وتعززت "طمأنينته"، بعدما عملت الأجهزة الأمنية بكفاءة على تفكيك التنظيمات والخلايا المتشددة (أو "التكفيرية"- الإرهابية)، والتي قد تشكّل خطراً على سيطرته، أو قد تنفّذ عمليات أمنية في مناطق نفوذه، كما حدث في تفجيرات الضاحية عام 2013.

ما يحدث الآن، وبانتهاء كل هذه الظواهر "المارقة" واستتباب الحال، أن حزب الله لم يعد بحاجة لأنصار الله. كأن الدور "الأمني" المناط بهذ التنظيم، الذي يشبهه كثيرون بتنظيم أنصار الله في اليمن، انتهى. لكن، يحدث أن "الوحش" الذي تم اختلاقه يخرج عن السيطرة. حدث أن بعض الخلافات بدأت تطرأ على العلاقة بين الطرفين منذ مدّة، لا سيما عدم التزام أنصار الله بتوافقات وقف إطلاق النار داخل المخيم وما شابه من صدامات. استمرّت الجماعة بتنفيذ عمليات اغتيال ضد حركة فتح وتصفية كوادرها. تحول الصراع إلى نزاع على النفوذ، بالمعنى الميليشياوي– المافيوي. تغيرت أهداف السيطرة على مخيم المية ومية، من أهداف عسكرية إلى أهداف مالية.

في العام 2017، وحسب توكيد حركة فتح، حاولت جماعة أنصار الله اغتيال أحد المستشارين في السفارة الفلسطينية، والقيادي في حركة فتح، اسماعيل شرّوف. حينها لم تستطع الحركة الذهاب بعيداً في الانتقام لشرّوف، إذ اعتبرت أن ما قامت به جماعة أنصار الله، يهدف إلى استدراجها إلى معركة خاسرة في مخيم المية ومية، تتيح للجماعة التمدد والتوسع. نامت فتح على الضيم لفترة، وتمنعت عن الثأر. حدث بعد حين أن ألقت الأجهزة الأمنية اللبنانية القبض على أحد مسؤولي أنصار الله، والمتهم بالعديد من الأحداث الأمنية وعمليات الاغتيال. التقطت حركة فتح الرسالة واستوعبتها. عملية تسليم هذا الرجل لا بد أن وراءها ما هو مخفي، وأن هناك من أراد "رفع الغطاء" عن الرجل المتهم بشكل مباشر باغتيال شروف. الجدير بالذكر هنا، أن اعتقال المشتبه به تزامن مع وقف حزب الله الدعم المالي لجماعة أنصار الله.

فهمت فتح الرسالة، فبدأت بالتحضير لانتهاز فرصة والانتقام، والعمل على تقويض الجماعة في مخيم المية ومية وصولاً إلى سحقها.

قبل أيام اندلعت اشتباكات بين الطرفين في المخيم، لم تستطع حركة فتح إحراز أي تقدّم ميداني، بل وأصيبت بخسائر بشرية، بينما جماعة أنصار الله بقيت في مواقعها، باستثناء خسارتها لموقع واحد يقع على نقطة تقاطع بين الشوارع الأساسية الثلاثة للمخيم.

في هذه الأثناء، ومن أجل وقف المعركة، دخلت وساطات عدة، وبدأ الحديث عن تدخّل الجيش اللبناني وسيطرته بشكل كامل على المخيم. لكن فتح لم تكن ممتنة لذلك. فأي تسوية ستحمي بقاء أنصار الله، فيما هي تخطط لإزالتها بشكل نهائي، مستندة على رفع الغطاء عن الجماعة من قبل حزب الله، ووقف الدعم المالي لها، بالإضافة إلى توسع الخلاف مع حزب الله، على خلفية بعض الأنشطة التي يقوم بها مقربون من زعيم الجماعة جمال سليمان مع بعض فصائل المعارضة السورية.

قبل يومين دخل الجيش اللبناني معززاً بآليات إلى بعض النقاط المفصلية في المخيم. تمهيداً للسيطرة الكاملة عليه. بعض الأطراف لم تكن راضية عن ما يجري، لأن بعض عناصر فتح، والذين تعتبرهم الحركة غير منضبطين كانوا يسعون إلى الثأر الكامل. وهذا ما دفع الاشتباكات إلى التجدد ظهر الخميس.

بالتزامن مع تجدد انفجار الوضع في المخيم، كان وفد من أهالي قرية المية ومية، الملاصقة للمخيم، يلتقي رئيس الجمهورية مطالباً بإيجاد حلّ شامل لهذا الانفلات الأمني الخطير، بالإضافة إلى مطلب الأهالي اللبنانيين بإخراج اللاجئين الفلسطينيين من بعض الأراضي الزراعية المجاورة للمخيم، وبعد ما اعتبروه توسعاً في أراضيهم، خارج الحدود المفترضة للمخيم.

هذا المخيم مقام بناء على اتفاق بين الأونروا والدولة اللبنانية والأهالي. وهناك إيجارات تدفعها الأونروا بدل إقامة هذا المخيم. بالتالي الذهاب إلى أي تعديل على خريطة المخيم أو خارطة توسع اللاجئين في محيطه، يحتاج إلى وقت طويل من البحث والتفاوض على الأنروا الإضطلاع بهما، وهي حتما غير جاهزة لهما اليوم.

في لحظة من المفترض فيها أن يوسّع الجيش من انتشاره في محيط المخيم، تتبدى أكثر غاية الصراع بين تلك الفصائل داخله، بوصفها تتخطى مجرّد الضغينة أو الثأر. فهي لحظة التفاوض مع الأونروا (والدولة اللبنانية)، ومن يسيطر على مساحة أكبر يكون هو المتحكم حتماً بمسار المفاوضات، وما قد يجنيه من "أرباح". إلى حينها سيبقى المخيم البائس بين التوتر القابل للانفجار، أو توغل الجيش اللبناني إلى مساحات فيه لم يصلها بعد.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024