خريف الرؤساء وجحيمنا

يوسف بزي

الخميس 2021/11/25

كان يعرف ميشال عون ونبيه برّي ونجيب ميقاتي أنهم "مضطرون" للمشاركة في إحياء مراسم يوم الاستقلال، بل وأن يجلسوا هكذا جنب بعضهم البعض، متخشّبين متيبسين متوجسين، بكثير من الجفاء والابتسامات الصفراء. كانوا يعرفون في هذا اليوم الخريفي الدافئ إنهم في نهايات خريفهم بالذات.. نهاية "الجمهورية" الشوهاء المنزوعة الاستقلال.

كانوا هناك على تلك الرابية المطلّة على العاصمة المغبرة الرمادية وقد غلبها الإنهاك، تماماً كحالهم وهم يحاولون المشي منتصبين ومغالبين تعبهم وشيخوختهم. ورغم أن ميقاتي بدا أكثر فتوة وحيوية جسمانية، إلا أن ضعفه السياسي مقارنة بالجبروت الديناصوري للرئيسين برّي وعون، تجعله أكثر التصاقاً بصفة العجز، وهو "الموقوف" رهن مصير النزاع المرير بين العجوزين العنيدين.

وكان من الصعب وصف ما كان يجري بـ"الاحتفال" لشدة بهتانه. وضاعف من غمّ المشهد، التجهم والنفور اللذان تحكّما بتعابير الرؤساء، فزادوا من منسوب القنوط الذي يهيمن على البلاد، وجسدوه في صورة واحدة.

حسناً فعلوا، فلم يتكاذبوا ولم يمثّلوا علينا، ولم يفتعلوا بهجة كانت لتبدو فاضحة. لم يبذلوا جهداً لأن يبدوا على غير ما هم عليه. رؤساء دولة خربة بمناسبة تنتمي إلى الماضي البعيد كل البعد عن راهننا القاتم.

هؤلاء اليوم يمسكون بآمال الغد! هم وليس غيرهم من سيتولى مسؤولية الآتي، بعدما أمعنوا طويلاً بمسؤولية ما انصرم. الانتخابات النيابية العامة، الانتخابات الرئاسية، إقرار القوانين الإصلاحية، خطة النهوض الاقتصادي، مفاوضات ترسيم الحدود، التعيينات الإدارية، التحقيقات في قضايا جوهرية ومصيرية: المرفأ، التدقيق الجنائي، تهريب الأموال، الاغتيالات، الصدامات المسلحة في خلدة وعين الرمانة.. وملفات لا عد لها. ناهيك عن الإصلاح السياسي (تطبيق الطائف) وتنفيذ القرارات الدولية، ورسم سياسة خارجية جديدة تفك عزلة لبنان، وصولاً إلى السؤال الوجودي الذي يطرحه سلاح حزب الله.

بمعنى آخر، ولشدة تمكنهم من السلطة، هم سيتولون مستقبلنا القريب.. ومصيرنا. وهذا مدعاة لتشاؤم مخيف. فكل ما جرى، خصوصاً في السنوات الثلاث الأخيرة، لم يترك أي أثر على طبائعهم وأفكارهم وأخلاقهم.. لم يغير ولو قيد أنملة في نظرتهم إلى أنفسهم، وفي معتقداتهم وسياستهم. فالرئيس عون "عوني" أكثر من أي وقت مضى، والرئيس برّي ما زال هو "الأستاذ" و"النبيه"، وميقاتي عام 2011 هو نفسه وأكثر زئبقية عام 2021.

يمكنهم طبعاً أن يكونوا كما هم مدى العمر، بالمعنى الشخصي. لكن المشكلة الآن أنهم ليسوا فريقاً ولا يريدون العمل سوية كفريق واحد كما يشترط عمل الدولة، وكما يتوجب على السلطة فعله. إنهم يكرسحون الدولة ويعطبون السلطة. والمعضلة أنهم غير راغبين بتحرير السلطة والدولة منهم. إمساكهم الشديد بهما والإصرار على البقاء فيهما، بل وعلى تحديد مستقبلهما يكاد يعدم الحياة العامة والسياسة، علاوة عن إعدام الاقتصاد والإدارة والآمال الوطنية.

على الأرجح، هم يعرفون أن كل شيء انتهى. ويدركون تماماً ما سيلي الخريف. لكنهم يقاومون بشراسة مشهودة أي إقرار بالنهاية. يحاولون تأجيل أو منع أي ولادة جديدة. إنها الشيخوخة اللئيمة على أي حال.

لهذا السبب، يشعر اللبنانيون أنهم في زمن لا يتقدم.. تمديد كابوسي للحظة سقوط لا ينتهي، كما يحدث في أسوأ المنامات.

ولذا، يبدو هؤلاء الرؤساء ضد الطبيعة والزمن، ضد حكمة البشر.. بل ضد البشر. يسعون إلى امتلاك المستقبل بعدما أستنفدوا كل الماضي وأهلكوا الحاضر. وها هم يخطفون مصير الانتخابات النيابية ويتلاعبون بمواعيدها وإجراءاتها وقوانينها. ويشعلون تلك الحرب الخفية حول رئاسة الجمهورية. يبذلون كل ما بوسعهم لإخفاء الحقيقة الكبرى: رفضهم لكل أوجه الإصلاح (بكل معانيه السياسية والاقتصادية)، الذي بات مسألة حياة أو موت لبنان.

كانوا هناك، معاً صامتين، عارفين أنهم يجلسون على شرفة الجحيم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024