"نجوم" الدبلوماسية: من قهوة البخاري إلى كفالات الشامسي

جنى الدهيبي

السبت 2019/01/26

لم يسبق لبلدٍ أن وجد فيه السفراء أنفسهم نجومًا، مثل لبنان. قد يكون ذلك عاديًا، في بلدٍ صانعٍ للنجوم وللنجوميّات الوهميّة. الكلّ في لبنان، بإمكانه أن يصبح نجمًا. فهناك السياسي النجم، والصحافي النجم، والسفير النجم. الأمر في غاية السهولة، طالما أنّ هذه النجوميّة، لا تكلّف صاحبها إلّا فائضًا من الاستعراض، والدعايات الفارغة، والاعتداءات السافرة حيث يجب أن لا يتعدّى. النجومية هنا، مقرونة بـ"التجاوز" وليس بـ"الاحترافيّة" في الأداء والعمل والدور المناط به صاحبه. القاعدة تبدو كالآتي: تجاوز حدودك تصبح نجمًا.

وعلى القاعدة نفسها، يتقاطر على مرأى اللبنانيين ومسمعهم، أخبار السفراء "النجوم" يومًا تلو آخر، ويتلقاها السواد الأعظم منهم، بكثيرٍ من الإعجاب والتمنيات بالمزيد. قد يكون ذلك عاديًا أيضًا، في بلدٍ يستجرّ فيه أبناؤه، شعوبًا وقبائل، القوى الخارجية للتدخل في شؤونهم الداخليّة. وليس أدل على هذا الاستجرار، من رِفعُ المقام الذي يتميّز به السفراء الأجانب في السياسات اللبنانية، وهو ما كرّسته الحركة الدبلومسيّة الناشطة في لبنان، في شتّى الميادين السياسية والاقتصاديّة والإنمائيّة والثقافيّة والتربويّة والاجتماعيّة وحتّى الرياضيّة.

من كفرذبيان إلى سجن القبة
لا شكّ أنّ سفير المملكة العربية السعودية، وليد البخاري، يتصدّر راهناً سلّم النجومية الدبلوماسية في لبنان. فهذا السفير الذي يكاد لا يهدأ باستقبالاته وتحركاته السياسية والشعبيّة، باتت أخباره جزءًا من الاهتمامات اللبنانية، التي لا يقلُّ مقدارها عن أخبار سعر صفيحة البينزين. لكن، بعد رابع لقاءٍ لـ"فنجان قهوة"، على قمم كفرذبيان البيضاء قبل يومين، التي استضاف فيها البخاري شخصيات إعلامية و"ثقافية"، سرق نظيره الإماراتي أضواء النجوميّة منه، صباح الجمعة في 25 كانون الثاني 2019 من أمام سجن القبّة في طرابلس. فجأةً، وفي سابقةٍ لعمل السفراء في لبنان، يقف سفير دولة الإمارات العربية المتحدة، حمد الشامسي، أمام سجن القبة في طرابلس، إلى جانبه محافظ الشمال القاضي رمزي نهرا، محاطًا بوجهاءٍ من المدينة، وعشرات المراسلين من مختلف الوسائل الإعلامية – كان لافتًا لوغو تلفزيون أبو ظبي (!) – ليعلن الشامسي دفع الكفالات والغرامات المالية لـ 20 سجينًا في سجن القبة، أنهوا محكوميتهم وليس في استطاعتهم دفع الكفالات.

طبعًا، لقي الشامسي ما أراده، من "واجبات" الشكر والامتنان وتصدّر نشرات الأخبار. وإذا كانت "حسنة" دولته مدعاة فخرٍ له، فهي مدعاة تساؤلٍ أيضًا، عن الخيط الفاصل بين العلاقة الدبلوماسية وبين هامش خرقها، بلقاءات دورية غير مفهومة، وتقديم مساعدات، تصل بسفيرٍ أجنبي إلى دفع كفالات للسجناء في البلد الذي يمثل فيه دولته.

وفي ظلِّ عملهما كسفراء أحرار الحركة، بصرف النظر عن مفهوم السيادة المخروق في لبنان أصلًا، ثمّة وقوعٌ مريبٌ في شرّ المقاييس. فلماذا سجن القبة وليس سجن رومية أو الريحانية مثلًا؟ لماذا في طرابلس وليس في بيروت أو البقاع أو الجبل؟ على أيّ أساس جرى اختيار 20 سجينًا؟ لماذا محمد وأحمد وليس جورج وعلي؟ ما لا شكّ فيه أنّ هوية سجن القبّة يعبّر وفق المنطق اللبناني عن الطائفة السنيّة في مكانها الشعبوي. وإذا كان السؤال مشروعًا عن نوايا إماراتية بفتح الباب السني شعبيًا في لبنان من باب معتقليه، لا ينفصل ذلك عن ظاهرةٍ لافتة في الاحتكاك المباشر لسفيري السعودية والإمارات مع الناس، في تلبية دعوات وزيارات شعبية، بالحضور الشخصي وتوطيد العلاقات مع الناس، ولو في أقاصي المناطق اللبنانية.

تناقضات المبادئ
لا تترك "اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية عام 1961" مجالًا لتبرير تجاوزات السفراء "النجومية". ففي المادة 41 من الاتفاقيّة، تنصّ أنّه "على جميع المتمتعين بالحصانات والامتيازات مع عدم الإخلال بها، احترام قوانين الدولة المضيفة وأنظمتها وكذلك يجب عليهم عدم التدخل في شؤونها". قد تكون العلاقة الدبلوماسية مع لبنان، لكلّ من الإمارات والسعودية عبر سفرائهما، دخلت النفق الشعبي من بابه الواسع. وبصرف النظر عن مفهوم الخرق والتجاوز، لا سيما أنّ لبنان يقوم بمؤسساته وسلطاته على المفهوم نفسه بالإلتفاف على القوانين والدستور والاتفاقيات، لا شكّ أنّ لهذه النجومية الدبلوماسية أهدافها. وهي إن بدت هشّة بالمضاربات الهزيلة، ربما ترمي إلى التلطي شعبيًّا عن هزيمة "شارعٍ" يتحملون مسؤوليتها الإقليمية، أو ربما تبغي التعويض عن عجزٍ في محاربة "محور" يدير مشاريعه ويتمدد، بعيدًا عن فناجين القهوة والكفالات.

اللافت في الأمر، أنّ الشعارات التي يرفعها "فنجان القهوة" على شرف الإعلاميين و"كفالات" المساجين، سواء بالدعوة لصون الحريات الإعلامية أو لضرورة الاعتناء في شؤون السجناء، تبدو شعارات فقاعيّة، لاسيما أنّها غير مطبقة في أنظمة بلادهم الأمّ. غير أنّ تعاطي الإعلام اللبناني، مع "السفراء النجوم"، سواء في تعظيم دورهم واستجداء بركاتهم، أو بالتهليل لتحركاتهم، ثمّة ما يعبّر عن أزمة السياسة اللبنانية المليئة بالعراضات الدبلوماسية من دون طحين سياسي. لذا، لا عجب من سلطةٍ معنوية يتمتّع بها سفيرٌ نجمٌ في لبنان، وهو يجد في ذلك مسلكًا ونهجًا وتفوقًا، لدرجة يسعى رجال السياسة أن يستمدوا منه جزءًا من سلطتهم. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024