فلسطينيو لبنان و"صفقة القرن": شعب الله المحتار

أحمد الحاج علي

الثلاثاء 2019/04/30

النبرة القوية الرافضة لصفقة القرن، والتي يُطلقها المسؤولون الفلسطينيون في لبنان، ليست حاضرة بالقوة ذاتها في مجتمعاتهم. فالمأساة الإنسانية التي تعيشها هذه المجتمعات أشغلتها، إلى حدّ بعيد، عما يمكن أن يُسقط القضية السياسية التي ناضلوا من أجلها، وأجدادهم، منذ أكثر من مائة عام. هذا، على الأقل، ما يوحي به الكثير من الإشارات، والوقائع، وكذلك التحوّلات التي أعادت ترتيب خياراتهم وتبدّلاتهم خلال السنوات الماضية.

الواقع والشعارات الكبرى
ثلاثة أحداث إنسانية وقعت خلال الأشهر القليلة الماضية في أوساط اللاجئين الفلسطينيين، يمكن أن تُجيب لماذا لم تعد الوقائع السياسية الكبرى بالجاذبية نفسها بالنسبة إليهم. فخلال شهر شباط الماضي، كان الشاب إبراهيم مصطفى على بُعد أيام فقط لإقامة حفل زفافه. أوقفته الأجهزة الأمنية اللبنانية، بتهمة بناء منزل فوق بيت أهله في مخيم برج الشمالي، مخالفاً بذلك الأمر الذي أصدرته السلطات المحلية، بمنع إدخال مواد الإعمار إلى المخيم ابتداءً من 1 كانون الثاني 1997. أُوقف إبراهيم لأكثر من شهر، قبل أن يتم إطلاق سراحه بكفالة مالية.

في الشهر نفسه، راحت إدارات عدد من المدارس الرسمية تفصل الطلاب الفلسطينيين، بذريعة وجود قرار من وزير التربية والتعليم يحمل رقم 1049 بفصل الطلاب الفلسطينيين. إجراءات الفصل كانت في منتصف العام، حين من الصعب على الطلاب الالتحاق بمدارس أخرى. بعد أيام من الفصل، عاد وزير التربية والتعليم، ليتدخّل ويعيد الطلاب المفصولين إلى مدارسهم، من دون إيضاح كافٍ حول مصير التحاقهم بمدارسهم في العام الدراسي المقبل.

الحادثة الثالثة، جرت في شهر نيسان الحالي، حين كان خمسة طلاب فلسطينيين بين عشرة طلاب في لبنان تأهلوا إلى المرحلة النهائية في مسابقة اللغة العربية التي تنظمها إمارة دبي، وذلك من بين أكثر من 11 ألف مشارك من مدارس لبنان. لكن تكريمهم في قصر الأونيسكو كان خارج القاعة، وبمبلغ مئة دولار لكل فائز. الأمر الذي أحدث ضجة لدى الأهالي، وتوجهوا إلى وزارة التربية اللبنانية، فكان رد موظفة تحتل منصباً مهماً "اشكروا ربكم أن تمكنتم من الوصول إلى هذه المرحلة فأنتم غير لبنانيين". القضية دفعت مؤسسات حقوقية ومدير عام الأونروا في لبنان كلاوديو كوردوني للتحرك، لكن من دون نتائج مرضية.

هذه الحوادث نماذج من القهر الاجتماعي والإنساني الذي يعانيه الفلسطينيون في لبنان، والذي يضعف مناعتهم في مقاومة المشاريع السياسية الكبرى، التي يرون أنها تعاكس مصالحهم.

المقاومة السياسية والفقر
الفقر وحده لا يصنع مقاومة، مهما حاول شعراء التغني بجدران المخيمات التي "تغصّ بالصور"، كما تقول إحدى الأغنيات الشهيرة، ومهما ردد السياسيون مقولتهم أن "الزواريب شاهد على النكبة"، فهم غادروها منذ زمن وسكنوا خارجها.

يقول التاريخ الفلسطيني الحديث إن الطبقى الوسطى هي من قادت النضال، بشكل أساسي، وأسست الأحزاب الفلسطينية المعاصرة، بدءاً من حركة فتح، حين أسسها مهندسون وأساتذة في الكويت والسعودية وقطر وغيرها. وكذلك حركة حماس، التي كان تأسيسها ممن ينتمون إلى الطبقة الوسطى في الكويت وغزة والضفة. ويسري ذلك على "الجبهة الشعبية"، التي كان متخرجون من الجامعة الأميركية في بيروت أبرز قادتها. ولوحظ أن المشاركة الأعرض والأشد في الكفاح المسلح بعد سنة 67، في الضفة وغزة، كانت لأفراد من عائلات الضفة وغزة المقيمة، من الطبقة الوسطى، وليست اللاجئة.

إن الطبقة الوسطى الفلسطينية في لبنان أصبحت من الماضي تقريباً، وتبلغ نسبة الفقر حوالى 66.4 في المئة في أوساط اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، أي أنهم "عاجزون عن تلبية الحد الأدنى من حاجاتهم الغذائية وغير الغذائية الضرورية"، كما تقول وكالة الأونروا. هذا يُضعف مقاومتهم السياسية، وحاسّة الرفض لديهم، رغم محاولة إنعاشها بخطابات تزيدها ضعفاً. فكيف لمن ينتظر ساعات على مداخل عين الحلوة ليدخل مخيمه، أو سجنه، أن يبدي مقاومة لـ"مشاريع تصفية القضية الفلسطينية" كما يتمنى السياسيون الفلسطينيون؟ وكيف لمن تحيط جدران العزل مخيمه في المية ومية أن يُقاوم بجدية؟ وكيف مَن لديه عدد من الأبناء بين طبيب ومهندس وصيدلي عاطلون عن العمل، أن يُظهر مقاومة لتلك المشاريع التي تُناقض أدنى طموحات الفلسطينيين؟

أي فلسطين؟
كل هذا التضييق يأتي في وقت يشهد تحوّلاً في طريقة التفكير لدى الفلسطينيين، كان بشكل رئيسي بأثر من الربيع العربي، سواء أيدناه أم عارضناه. هذا الربيع جعل قضية حقوق وكرامة الإنسان مساوية بالأولويات، لقداسة الأرض، إن لم تكن متقدّمة عليها. في الستينيات استعار الفلسطينيون الشعار الناصري "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وعام 1988 نسج على منواله أحد أهم قادتهم، أبو جهاد الوزير، شعاره "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة". شعار ردده الفلسطينيون في لبنان كثيراً. ومع انطلاق الربيع العربي، قبل ثماني سنوات، صار السؤال عن أي فلسطين نريد، أكثر ترداداً من السؤال عن كيفية تحريرها.

الأسئلة التي يُواجَه بها المسؤولون الفلسطينيون في المخيمات هي غالباً حول المشروع الاجتماعي والإنساني، وتحتل الأسئلة السياسية هامش الحديث. كان الفلسطينيون يقيّمون الأحزاب اللبنانية وفق شعاراتها من القضية الفلسطينية، وطول الكوفية، اليوم يتحدث الفلسطيني عن قانون منع التملك، الذي لم يعارضه في جلسة طرحه سوى نائب واحد. رغم إدانة الفلسطينيين في لبنان لممارسات الاحتلال، إلا أنهم أصبحوا أكثر صراحة في الحديث عن أن الأطباء الفلسطينيين يشكلون 35 بالمائة من مجمل الأطباء في (إسرائيل)، وحوالى 65 بالمائة من نسبة الصيادلة، بينما يُمنع الأطباء الفلسطينيون والصيادلة من ممارسة مهنتهم في لبنان.

من أوسلو إلى اليوم
يصعب التنبؤ بردّة فعل الفلسطينيين تجاه "صفقة القرن"، خاصة وأنها لم تُعلَن بشكلها النهائي، لكن على الأقل، فإن جزءاً منهم سيُحدد موقفه وفق ما تحققه له على مستوى الخروج من واقعه الإنساني. ويحدد قسم مهم موقفه وفق الإجماع الفصائلي الفلسطيني، فإذا بقيت حركة فتح مصرة على رفض الصفقة، فإن الاعتراض عليها سيكون أوسع في الشارع الفلسطيني في لبنان. ويمكن أن يحدث انقسام، كما زمن توقيع أوسلو، في حال موافقة فتح على الصفقة، لكن من دون أن يصل إلى حدّته في ذلك الزمن، للأسباب التي ذُكرت في متن المقالة، وتبدّل اهتمامات الفلسطينيين. وقسم واسع آخر سيبقى محتاراً في رأيه، متأرجحاً بين صراع في نفسه وعقله بين الحق والمصلحة، والتاريخ والمستقبل، حتى يكاد يصح عليه قول ناجي العلي "شعب الله المحتار". 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024