عن تبرّعات الفاسدين والوقحين والكسالى والبخلاء

نادر فوز

الثلاثاء 2020/03/24
جزء من القلب مع مصابي فيروس كورونا، والجزء الآخر منه مع من يعمل على معالجتهم وشفائهم. ولدعم هؤلاء نحن بحاجة إلى "فلس الأرملة". بإمكان هذا الفلس أن يدعم القطاعات الطبية والاستشفائية والتمريضية لإنقاذ الأرواح من هلاك كورونا. وفلسا الأرملة مشهود لهما في إنجيل مرقس وكافة الأناجيل. "فجاءت أرملة فقيرةٌ وألقت فَلسَين، قيمتهما رُبعٌ"، (مر 12: 42). "فدعا تلاميذه وقال لهم: "الحق أقول لكم: إنّ هذه الأرملة الفقيرة قد ألقتْ أكْثر من جميعِ الذين ألقَوْا في الخزانة"، (مر 12: 43). لطالما كان التبرّع وأعمال الخير والعطاء جزءاً من الخطاب الديني.

لعب المتبرّعون
لدعم هؤلاء قامت حملات تبرّع وحفلات عطاء تسيّدها زعماء وسياسيون وكبار التجّار وأصحاب الوكالات الحصرية والمصارف. ليس المتبرّع أرملة، بل من رمّلها. جاء الجاني لمساعدة من تبقى من ضحايا. القلب مع هؤلاء الضحايا طبعاً، لكن العقل في مكان آخر. كل هؤلاء الجناة جمعوا المليارات، بالليرة اللبنانية طبعاً، وتركوا المليارات الأخرى المُدَولَرة في الأخبية. أصحاب قلوب كبيرة، استشعروا وجع الناس فتحرّكوا. لم يفعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، بل بعد دعوات موجّهة إليهم. بادر بعض الإعلاميين إلى ذلك فلبّوا النداء. لن يتأخروا ثانية واحدة عن الموعد، فالمناسبة مؤاتية لتلميع صورتهم. وكل شيء بثمنه، حتى صحة الناس من الأتباع والعموم. يتقنون مهنتهم في ظل الأزمات، تحديداً في زمن الكوارث. المقايضة، البيع والشراء، العرض والطلب، تبادل المصالح، وغيرها من أدوات الربح والحكم، يتقنها المتبرّعون.

زوج الأرملة
تبرّع السياسيون بفلسَين، علّ طنينهما في صندوق التبرّعات يمحيان صرخات الوجع والغضب والظلم التي تصدّرت شوارع 17 تشرين. وكذلك فعل أصحاب المصارف الذين حرموا الناس من أموالهم ومدّخراتهم، وحتى من أقساط دراسة أبنائهم. واللعبة نفسها فعلها التجار الذين خنقوا الأسواق بالأسعار ومعها آلاف العائلات العاجزة. ليس المتبرّعون أرامل، بل قتلة الزوج. هم خلطة سحرية من قطاعات مختلفة حكمت البلد في حربه وسلمه. هم المسؤولون عن كل سوء من جوع وبطالة وإفلاس وفساد وعطلان اقتصادي وخزينة فارغة. يتبرّعون بما لا يذكر مما جنوه على مدى عقود، ومقابله يسعون إلى نفض غبار الثورة عن صورهم. يريدونها لامعة كما كانت، معلّقة في صدور المنازل والمقار الرسمية والحزبية. لا يبغون من هذا التبرّع والعطاء إلا إيصال رسالة واحدة جامعة للبنانيين: نحن حُماتكم، ونحن منقذوكم.

عفن الخلطة
يراهن هؤلاء على النسيان. يتعاملون مع جمهور مُتعب وجائع، حكمه الخوف من الفقر سابقاً والهلع من المرض اليوم. يرمون فتات التبرّعات ومعه ما يكفي من رسائل تقول "لا أمل لكم دون العودة إلينا". هم راحمون أيضاً، يسامحون، يدعون الخطأة إلى جلابيبهم من جديد. يطبّقون حكمة أخرى من أمثولات الإنجيل. عودة الابن الضال، "ولكنْ كان ينبغي أن نفرح ونُسرَّ، لأنّ أخاك هذا كان مَيِّتاً فعاش، وكان ضالاً فَوُجدَ" (لو 15: 32). ليس المتبرّعون الأب المتسامح، بل أصدقاء الابن الضال. بذّروا ماله وأسرفوا فيه، عمّموا فسادهم وحروبهم فدفع ضحاياهم ثمن كل ذلك. هم خلطة من كل سوء، لا ينافس عفن رائحتها حتى مذاق الموت والمرض.

كسل إضافي
مال سياسي وانتخابي من صنف جديد، على شكل تبرّعات وبعنوان إنساني إنقاذي. مشابه لفُتات الإعاشة الغذائية التي وزّعتها أحزاب السلطة في الأزمة الاقتصادية. ومشابه أيضاً للإعاشة العينية التنظيفية التي توزّعها نفس الأحزاب اليوم. لا تملّ هذه الأحزاب من نفسها، تستنسخ نفسها وعن بعضها كل شيء، وبشتّى الظروف. لا تسعى إلى تطوير ذاتها ولا البحث عن أساليب تطويع جديدة، كسالى.

ما قدّمه المتبرّعون لا يزيد عن 0.2 في المئة من الدين العام المنهوب. 98.8 في المئة، نسبة تليق بالأنظمة الديكتاتورية، فاضحة واضحة وصريحة. لا يمكن محوها من الأذهان، ولا محو ما سبقها من جرائم مالية وفعلية. استعادة هذا المال المنهوب من أخبية السياسيين وتجّارهم ومصارفهم، من حساباتهم المصرفية في لبنان وخلف البحار، واجب أخلاقي اليوم أكثر ما كان في 17 تشرين. لذا هو عنوان متجدّد كجميع عناوين الثورة ومطالبها. يجدّده رجال السلطة بأدائهم كل يوم، فلا خوف على إعادة الحياة إلى شوارع الثورة بعد كابوس كورونا. فهم الناس في العقود الأخيرة أنّ رجال السلطة فاسدون. وفهموا في الأشهر الأخيرة أنهم فاسدون ووقحون وكسالى. لكن اليوم نسيج خلطتهم يتطوّر، فاسدون ووقحون وكسالى وبخلاء أيضاً. "لا أحدٌ أقبحَ جرماً من البَخيل. لماذا يتكبَّرُ التُّرابُ والرّمادُ؟" (سي 10: 9).

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024