ضياع سنّة البقاع بين جعجع والتطرف وبهاء الحريري

لوسي بارسخيان

السبت 2021/11/20
تنطبق على علاقة سنة دائرة زحلة الانتخابية مع تيار المستقبل مقولة: "رضينا بالهم والهم ما رضي فينا". فبرغم كل إخفاقات التيار الأزرق في بيئاته السنية عموما، لا تزال كثرة من أبناء البقاع الأوسط تتمسك به مرجعية لها، كتمسك الغارق بقشة خلاصه. وهذه علاقة عضوية توطدت مع المرجعية السياسية البيروتية، منذ تحول تيار المستقبل حالة سنية جارفة لدى اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

الخفوت وضجيج الاغتيال
قبل اغتيال الحريري عُرِف سنة البقاع بإنتمائهم إلى الداخل العربي. وفي ظل الوجود السوري بلبنان، شكلت سوريا امتداداً اقتصاديا استراتيجيا لأهالي منطقة البقاع، خفت الصوت السني المعارض لنظام الجار السوري، فلم يسمع ضجيجه إلا لدى خروج جيش سوريا من لبنان. حينذاك انكسرت الجرة لأول مرة، خلف آخر حافلة عسكرية خرجت من معبر المصنع الحدودي، على أعتاب بلدة مجدل عنجر السنية.

العطف الذي ناله الرئيس سعد الحريري بعد اغتيال والده، قلب الصورة في الوسط السني، ووضعه في مواجهة النظام السوري. وقد دفع شبان كثيرون ثمن هذه المعارضة، تضييقا اقتصادياً وبعض اعتقالات للمعارضين على المنافذ الحدودية. وهذا ما أقام للمرة الأولى تناغما بين صوت زحلة المدينة والبلدات السنية في قضائها.

ولكن برغم هذه المعارضة للنظام السوري، لم تكسر البيئة السنية "الجرة" مع أي من حلفاء سوريا في الداخل. فحافظت على علاقة ود مع جيرانها، وبقيت مجتمعاتها مخترقة سياسياً من أولئك الجيران، وتوجهت أصابع الإتهام أحياناً إلى المنتمين لسرايا المقاومة.

النفور من حزب الله
ولم يتعرض هؤلاء لمضايقات فعلية في مناطقهم، إلا بعد أحداث 7 أيار. وحينذاك صار النفور السياسي مطلقاً من حزب الله خصوصا، وانعكس ذلك على المناخ الانتخابي في الشارع السني في أكثر من دورة.

لكن المستقبل بتحالفاته السياسية وتسوياته على مستوى القيادة، لم يتلقف نبض شارعه، فخذلت القيادة قواعدها السنية مرات عدة، فبات تيار المستقبل مهدداً بخسارة خاصرته السنية المحاذية للحدود اللبنانية - السورية.

انهيار المستقبل البقاعي
يشكل سنة دائرة زحلة قوة انتخابية منفصلة، قادرة على قلب النتائج لمصلحة أي لائحة تمنحها أصواتها في حال تكتلت. وقد صبت هذه القوة لمصلحة تيار المستقبل في أول دورتين انتخابيتين بعد إغتيال رفيق الحريري، فأمنت فوز لائحته في الدورة الثانية، بعدما فوت التيار على حاله الفرصة بتحالفه "الرباعي" مع حزب الله وحركة أمل في الانتخابات الأولى.

لكن القصة بدأت في الانتخابات الثالثة بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان. فهي جرت على أساس قانون انتخاب نسبي تفضيلي. لم يفقد هذا القانون تيار المستقبل قوته التجييرية فحسب، بل تسبب بتدهور مؤسساته وإمكاناته المالية، وبـ"لعنة" تشتت ماكينته الانتخابية. وهذا ما سمح باختراق القاعدة السنية الناخبة بالمال الإنتخابي، الذي أفقدها فاعليتها السياسية وعرّضها لانهيار تام في ثوابتها السياسية.

ولتشتت قاعدة المستقبل مسببات أخرى أكثر عمقا من عامل المال: تحالفاته "غير المنسجمة" مع التيار العوني. وهذا ما حمل شريحة سنية واسعة على تجير صوتها لغير مرشحي المستقبل: "واحد سني والثاني أرمني" على لائحة تحالفه مع التيار العوني، فسقطت مرشحته الأرمنية سقوطاً مدويا، ولم يتمكن النائب عاصم عراجي من تصدر لائحته، رغم فوزه بمقعده.

وكانت تلك بداية تفتت ماكينة تيار المستقبل في البقاع تفتتاً غير مسبوق، واختراقه برأس المال، بعدما فُتحت له ثغرات عدة من طريق مفاتيح انتخابية سنية اعتبرت في صلب ماكينته، وخصوصا في بلدة برالياس التي تشكل أكبر تجمع سني في دائرة زحلة.

صوت التغيير السني
منذ ذلك التاريخ، لم يسبق أن تسبب حزب بإحباط جمهوره، قدر الإحباط الذي ألحقه تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري لجمهوره في البقاع. وهذا ربما ما جعل صوت التغيير يخرج من الأوساط السنية أولاً في قضاء زحلة. ففي هذه الأوساط تشكلت مجموعات "ثورية" رفعت شعارات إسقاط المنظومة الحاكمة "كلن يعني كلن". فأقفلت الطرق وأحرقت الإطارات، وسدت المنافذ وأطلقت الهتافات، إلى أن أعلن الرئيس الحريري استقالة حكومته أثناء ثورة 17 تشرين.

وحينذاك أصيب سنة البقاع بذهول، واعتقد بعضهم أنهم ضحية مؤامرة لإضعاف قيادتهم، وخصوصا عندما اكتشفوا أن الشارع لم ينتقم سوى من رأس هرمهم السياسي في السلطة، فيما حافظت الطوائف الأخرى على مكتسباتها.

التعاطف الضائع والبلطجة
ولما اشتعلت موجة التعاطف السني مع تيار المستقبل، وخصوصا مع سعد الحريري، لم يتمكن التيار إياه من وضع آلية عملانية تسمح له بتحويل التعاطف إلى مكاسب سياسية. فضبابية المستقبل السياسية عمقت الشرخ بين القيادة وإرادة قواعدها. وهذا ربما ما دفع القواعد الى البحث عن زعماء جدد لها، حتى بين صور القادة العرب الأكثر تطرفا. فكان أن رفعت مثلا صور الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، في أحد أبرز ساحات البقاع: تعلبايا التي شكلت منذ سنة 2019 رمزاً من رموز اندلاع ثورة 17 تشرين.

ويكاد حضور تيار المستقبل في البقاع يختزل حاليا بمنسق، هو رئيس بلدية مجدل عنجر سعيد ياسين، الذي لا يحظى بإجماع في القرى البقاعية السنية الأخرى، ولا حتى في بلدته التي خرجت منها أصوات عدة تدين تصرفاته وأدائه، وصولاً إلى تصادمه المباشر مع بعض وجوه "الثورة" التي عجز عن دوزنتها على قياس "تيار المستقبل".

وقد عين ياسين بعد موجة من الاتهامات والتخوينات التي تعرض لها مستقبليون أداروا الماكينة الإنتخابية سنة 2018، وتسببوا لها بفضائح جمة أمعنت في تعميق أزمة المستقبل في منطقة زحلة ودائرتها.

بعد الانتخابات الأخيرة، كان يفترض بالمستقبل أن يعيد تنظيم قيادته البقاعية. لكن "الثورة" قامت لتمعن في إنهاكه، فخنقت صوته، وسمحت بارتفاع ضجيج بعض المجموعات "المسماة ثورية" على صوت التيار. واستحسن بعض المستقبليين "البلطجة" التي تطرّف إليها المنقلبون على قيادتهم، تعويضاً عن ضعف مواقف المرجعية السنية السياسية، من دون أن ينجحوا فعلياً في خنق التعاطف الذي يحظى به المستقبل لدى أغلبية البيئة السنية البقاعية.

غياب شخصية قيادية
ربما تتمثل أحدى معضلات تيار المستقبل في البقاع، بأنه لم يفرز شخصية سنية قيادية، تشكل مرجعا سنياً في المنطقة، وتقرب المسافة بين القواعد البقاعية والقيادة البيروتية. لذا بقيت هذه المرجعية مركزية، ويتراجع حضورها الشعبي كلما ضعف تأثيرها في السلطة.  

ويعتقد مراقبون أن ما يعانيه الشارع السني في البقاع "موروث" عن ما أرساه النظام السوري، الذي قلّص دور الزعامات في معظم المناطق، وخصوصاً على حدوده البقاعية. فدائرة زحلة تحديداً، لم تفرز زعيما سنياً منذ عقود طويلة. وعلى رغم تشكيلها واحدة من اكبر تجمعات السنة، فإن النائب السني في البقاع يعتبر الأضعف بين زملائه في مختلف المناطق السنية اللبنانية.  

وحتى عندما إنخرط الشارع السني بقوة في ثورة 17 تشرين، لم ينجح في فرز شخصية قيادية يمكن أن تسد الفراغ محلياً. بل شرّعت الأبواب لمتسلقين محليين، يحاول كل منهم أن يركب الموجة الشعبية لحجز دور له في معركة لا يعول عليها في إيصال الطامحين إلى البرلمان.

تزاحم العائلات 
ويعيد البعض سبب الضعف في الموقع السني البقاعي إلى الحسابات العائلية، التي تتدخل تدخلاً أساسياً في اختيار المرشحين السنة في دائرة زحلة. وهذا وسط طموحات عائلية متدافعة ومتزاحمة. ما يوقع المستقبل عادة في مخاطر التسبب بالانشطار الأفقي في قاعدته. فالتنافس بين عائلات عراجي وميتا والميس في برالياس، أبرز مثال على هذا الإحراج الذي يقع فيه المستقبل. لكن المنافسة غير محصورة فقط بين هذه العائلات "البرلياسية" في المنطقة، بل تتوسع أحياناً إلى التنافس على المقعد بين مجدل عنجر وبر الياس وقب الياس، وحتى مكسه وغيرها من القرى السنية التي يحاول كل منها "نتش" الكرسي.

وهذا يبين عدد الألغام التي على النائب عاصم عراجي أن يجتازها، لكسر الحواجز بينه وبين ناخبيه، حتى لو رفعت مبررات اختياره من بين باقي المرشحين إلى المستوى الاستراتيجي السياسي. فالنائب عاصم عراجي يعتبر شخصية محببة في البقاع. وهو من نواب قليلين أمسكوا ملفات تعني منطقة البقاع وحاولوا متابعتها حتى النهاية. وأبرز تلك الملفات تلوث الليطاني، وملف الدواء الذي أخذه عراجي على عاتقه من خلال لجنة الصحة النيابية. وهو تابع تفاصيل جائحة كورونا.

ضعف العصب السياسي
لكن عراجي هو الأضعف سياسياً بين زملائه، سواء في تكتله أو بين المتحزبين في دائرة زحلة. ذلك فيما تبحث الطائفة السنية تحديداً عن عصب سياسي، في المواجهة المفتوحة مع حزب الله وسلاحه غير الشرعي.

وهذا الضعف في الزعامة السنية المحلية، جعل النبض السياسي السني متقدماً على خيارات قيادة المستقبل. فبعض السنة لا يترددون في التطلع إلى سمير جعجع، كنموذج لما ينزعون اليه من خطاب يواجه حزب الله. لكن هذا لا يعني استعدادهم التام لتقبل استبدال زعامتهم السنية بأخرى مسيحية.

التطرف وبهاء الحريري
والفراغ الذي يخلّفه تيار المستقبل اليوم، وتأخره في حسم قراراته، يترك بيئة خصبة لخطابات متطرفة. وهناك من يترقب أيضاً إمكان حلول بهاء الحريري محل شقيقه في قيادة الشارع السني، وتحديد بوصلته السياسية.

فالحريري الشقيق لديه محاولات بدأها مع "ثوار" البقاع، لكنها لم تتطور إلى حالة سياسية، بل هيأت أرضية مؤهلة للتوسع بقاعاً، طالما أن سعد الحريري لم يقدم حتى الآن على خطوة توحي أنه سيخوض الانتخابات بعناوين سياسية واضحة. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024