المُناهَبةُ أو البنْيةُ السياسيّةُ لمَسارِ الدولةِ اللبنانيّة نحو الإفلاس

أحمد بيضون

الأربعاء 2019/11/27

مُرادُنا ههُنا أن نتوصَّلَ إلى الترسيمةِ المجرّدةِ التي وضَعَتْ لبنان، دولةً ومجتمعاً، على سكّةِ الانهيارِ العامِّ وقادَتْهُ إلى شَفيرِه. على الفَوْرِ، نقْتَرِحُ لهذه الترسيمةِ اسماً هو "المُناهَبة". وهذه، في عُرْفِنا، أعَمُّ بكثيرٍ ممّا يُدْعى "الفساد"، وهذا سيَأْتي بَيانُه. وهي غيْرُ "النَهْبِ" أيضاً أو هي صيغةٌ من النهْبِ العموميّ تتَّصِفٌ بأوصافٍ وتتَعيَّنُ بشروطٍ تُضْفي عليها فرادةً مؤكَّدةً بينَ سائرِ حالاتِه. فهي تفترضُ تقابُلاً أو تبارِياً ما بينَ الأطرافِ الناهبةِ فيَلْزَمُ أن تكونَ هذه الأطرافُ عديدةً ومنخرطةً في بنيةٍ واحدة، ويسعُها، بَعْدَ ذلكَ، أن تكونَ متواجِهةً أو متواطئةً ويسَعُها التقلّبُ بينَ الحالَين. المناهَبةُ، أخيراً، غيرُ التَناهُبِ باعتِبارِ الأخيرِ يسمّي نَهْبَ أطرافِهِ بعضَهم بعضاً فيما تسمّي المناهَبةُ تباري الأطرافِ في نَهْبِ ما ليسَ لِأيٍّ منهم أصلاً، وهو هنا المالُ العامّ. ولَمّا كانت المناهَبةُ مشتَمِلةً على التصرّفِ بالمالِ العامِّ جُمْلةً فهي التعبيرُ عن بنيةٍ سياسيّةٍ تُمْلي أسلوباً موصوفاً في التصرّفِ بما يقعُ تحتَ سُلْطتِها أيْ هي "نِظام". "نِظامُ المناهَبةِ" هو الاسْمُ الذي نقتَرِحُه للنظام الطائفيِّ اللبنانيِّ، إذن، ناظِرينَ في هذه التسمِيةِ إلى الأسْلوبِ الذي انتهى إليهِ هذا النظامِ في أداءِ وظيفتِهِ الماليّة، الحَيوِيّةِ لبقائهِ، وهي تحصيلُ المالِ العامِّ والتصرّفُ به.

الميزان والعنف
باختصارٍ كلّيٍ، نعْرِضُ هذا المسار، مختارينَ الابتداءَ من سنةِ 2005، إذ هي السنةُ التي شهدَت جلاءَ الوصايةِ السوريّةِ على حُكْمِ لبنان، وكانَ الوصيُّ، إلى ذلكَ الحينِ، هو المحكّمَ الأخيرَ في سياسةِ التناقضاتِ بين أطرافِ المجتمعِ السياسيّ اللبنانيِّ والمخوَّلَ ضبْطَها في حدودِ المحافظةِ على سيطرتِه العامّةِ ورعايةِ مصلحتِهِ بما هو طرفٌ في المناهَبةِ أيضاً.

هذا الجلاءُ أفسَحَ في المجالِ لواقعةٍ أخرى رئيسةٍ هي رُسُوُّ موازينِ التمثيلِ النيابيّ والحُكْمِ على صورةٍ أقْرَبَ بكثيرٍ من ذي قَبْلُ إلى موازينِ المجتمعِ السياسيّ اللبنانيِّ، بصورتِهِ التي كانت قد أنْشَأَتْها الحرب. تمثَّلَت هذه الواقعةُ، أوّلاً، بعودةِ التيّارِ العونيِّ والقوّاتِ اللبنانيّةِ إلى ساحةِ التمثيلِ النيابيِّ والترشُّحِ للحُكْم، وهو ما وَضَعَ حدّاً لما كانَ يُدْعى "الإحباطَ المسيحيّ" أو أطْلَقَ ديناميّةَ السَعْيِ إلى الخروجِ منه، في الأقلّ. تمثَّلَت الواقعةُ نفْسُها، ثانياً، في دخولِ حزب اللَّهِ شريكاً شيعيّاً متصدّراً، في السلطةِ، لحركةِ أمل، وممثّلاً فيها للديناميّةِ الإيرانيّةِ في المجال العربيّ بَعْدَ أن كانَ مكتفياً إلى ذلكَ الحين بحضورٍ ضئيلِ الفاعليّةِ في المجلِسِ النيابيّ ومعَوِّلاً على ضمانةِ الوصايةِ السوريّةِ لسلاحِه ودورِه. معنى هذا أنّ الجلاءَ السوريّ لم يضعِف فاعليّةَ الأدوارِ الخارجيّةِ في تجاذُب القوى اللبنانيّة بل دفع إلى واجهتِهِ الصراع الإيرانيّ السعوديّ وما يليه من مواجهاتٍ في الساحةِ الدوليّة واختصَرَ دورَ النظامِ السوريّ برعايةِ قوىً ثانويّةٍ، على الإجمالِ، ظلّت تواليه وبالضَغْطِ ذي الطابَعِ التآمريّ على الميزان اللبنانيّ الذي أرسَتْهُ المواجهةُ بين الساحتينِ غداةَ اغتيالِ رفيق الحريري.

والحالُ أنّ هذا الميزانَ لم يُتْركْ مصيره لمنطق الصراع السياسيّ وحدَهُ وإنّما بقي السعي دائباً إلى تعديله بالعُنْف: بسلسلةِ الاغتيالات، أوّلاً، ثمّ بالاستثمار في محصّلةِ الحرب التي شنّتها إسرائيل على لبنان في صيف العام 2006 ثمّ بواقعة 7 أيّار 2008، إلخ. وقد حصل التعديل فعلاً، محطّةً بَعْدَ أخرى، مسفِراً عن تحكّمٍ للمحور الذي تشكّلَ من حزب الله والتيّار العونيِّ في مسار الاستحقاقات الدستوريّة ومصيرها وفي خيارات الحكم المهمّةِ بالتالي. غنيٌّ عن البَيانِ أنَّ العُنْفَ السياسيَّ، بسائر تمثُّلاتِه وتفاوتِ نطاقاتِه، كبَّدَ الدولةَ والبلادَ خسائرَ جسيمة. ولكنَّ هذا لا يدخُلُ في بابِ ما نسمِّيه المناهَبةَ إِلَّا لجهةِ صدورهِ وهذه الأخيرة عن بنيةٍ عامّةٍ واحدة...

الواقِعةُ الثالثةُ (وكانَ قد كرّسها الدستور المنبَثِق من اتّفاقِ الطائف ولكنّها جاءت معبّرةً عن ذواءِ المقوّماتِ الاجتماعيّةِ التي حمَلَت أرجَحيّةَ الموارنةِ في نظامِ الحُكْمِ طوالَ العُقودِ السابقةِ للحرب وعن ميزان القوى العامّ في نهايةِ هذه الأخيرة) كانت ضمورَ موقِعِ التحكيمِ المنوطِ برئاسةِ الجمهوريّةِ وتكشُّفَ موازينِ السلطةِ عن نوعٍ من "المساواةِ" المبدئيّةِ في حقّ اتّخاذِ القرار، لا يعْتَبِرُ بالتراتُبِ في المؤسّساتِ الدستوريّةِ وبينها ولكنّهُ يبقى عُرْضةً للميزانِ السياسيّ المنصوبِ بين قوى الطوائفِ ولتقلّباتِ الصراعِ بينها. هذه "المساواةُ" المبدئيّة (وفيها شَبَهٌ ما بـ"المساواةِ بينَ المواطِنين" في النظامِ الديمقراطيّ) جاءت مزكّيةً لحيازةِ كلٍّ من القوى الطائفيّةِ نوعاً من حقّ النقضِ تمارسُهُ، على الخصوصِ، في مجلِسِ الوزراءِ فارضةً مبدأَ "الإجماعِ" على أنّه السنّةُ المقبولةُ لعَملِ هذا الأخير... وهو ما يفضي حُكْماً إلى تقزيمِ المعارضةِ أو إلى جعْلِها مداورةً بينَ أطرافِ الحُكْمِ أنْفُسِهِم، بحسَبِ الظرْفِ أو الموضوعِ، وهو ما يفضي أيضاً إلى تعَذُّرِ المحاسَبةِ على كلِّ صعيدٍ تقريباً: تردَعُها (في مجلس النوّاب وفي سواه من مراجعها) شركاتٌ سياسيّةٌ متناظرةٌ وحماياتٌ لا تأنَف أحياناً من استثارةِ "غيرةِ الدين"!.. وهذا كلُّهُ في ظلِّ تهالُكٍ بَيِّنٍ لدَوْرِ مرجعيّةِ التحكيم الرئاسيّ عندَ احتدامِ المواجهةِ أو استعصاءِ الخلاف.

حقّ النقضِ المتبادَلُ و"التناظُرِ الطائفيِّ"
على أنّ ما يعنينا من التحوّلِ البارز الذي شهِدَهُ العامُ 2005، إنَّما هو استقرارُ صيغةِ الحُكْمِ في البلادِ على البنيةِ العميقةِ الحاضنةِ لنظامِ المناهَبة. فقد تقاسَمت حكمَ البلادِ مذّاك قوىً سياسيّةٌ للطوائف "لا يُسْتَغْنى عنها" وتُسْتَبْعَدُ المداورة بين كلّ منها وسواها من قوى الطائفةِ نفسِها باعتِبارِ أنّ استبدالَها انتقاصٌ، يجافي المبدأَ العامّ، من نصيبِ الطائفةِ من السلطةِ الفعليّة ومن حُسْنِ تمثيلِها فيها. والواقعُ أنّ استبعادَ هذه أو تلك من القوى المشارِ إليها حصَلَ فعلاً في هذه أو تلكَ من محَطّات التجاذُبِ ما بين المعَسْكرَينِ الكبيرين اللذين اقتَسما ساحةَ السياسةِ والحُكْمِ ابتداءً من سنةِ 2005. ولكنّ هذا الاستبعادَ كانَ يُنْظَرُ إليه على أنّهُ خللٌ خطيرٌ في التوازن الطائفيّ للسلطةِ يُتَرْجِمُ تغلّباً لطائفةٍ على أخرى ويبطِنُ، بالتالي، قَهْراً طائفيّاً واستنفاراً ينتهي، بَعْدَ حينٍ، إلى استعادة الصيغةِ المعدودة "سَوِيّة". هذه الصيغةُ هي، على ما سبقَت الإشارةُ إليه، صيغةُ التمثيل الجامع، في الحُكْمِ، للقوى "التي لا يُسْتَغنى عنها" واعتِمادِ "الإجماعِ" مبدأً لها، في الممارسةِ، يكفَلُهُ حقّ النقضِ المتبادَلُ. فإذا تعذّرَ الإجماعُ – وهو، في ظرْفِ الاستقطابِ العامّ ذي الأبعادِ الخارجيّةِ، قابِلٌ جدّاً للتعَذُّرِ – استعصى اتِّخاذُ القرارِ أو أفضى الأمرُ إلى تعطيلِ مؤسّسةِ الحُكْمِ برمّتِها تعطيلاً مفتوحاً على التمادي ومن ثَمَّ على التنازُعِ المرِّ لموازينِ إعادةِ التكوين... الخسائرُ الاقتصاديّةُ المؤكّدة التي ترتّبت على البلاد وتلك الماليّةُ التي ترتّبت على الدولة من جرّاء حالاتِ التعطيلِ ندَعُها جانباً في سعينا إلى التعريف بمَواطنِ المناهبة.

الأهمّ لما نحنُ بصدده أنّ هذا التيَبُّسَ الشديدَ في صيغةِ الحُكْمِ الطائفيّةِ، وهو يعكسُ تيَبُّساً نسبيّاً في الانتظامِ السياسيِّ للطوائفِ، فرَضَ مبدأَ "التناظُرِ الطائفيِّ" في الأنصبةِ النسبيّةِ من المالِ العام مبدأً أوَّلَ لتوزيعِ الإنفاقِ العامّ ولسياسته. ومبدَأُ التناظرِ هذا، بصفتِهِ الطائفيّةِ، هو المفضي حُكْماً إلى ما نسَمّيه "المناهَبة". وأيسَرُ مثالٍ له أن نفترض اعتماداً إنشائيّاً ذا أهَمّيّةٍ في الموازنة العامّة يحْتَسَبُ في خانةِ واحدةٍ من القوى الممثّلةِ في الحُكْمِ. يُمْكِنُ أن يكونَ الاعتمادُ مقترناً بمصلحةٍ عامّةٍ محقّقةٍ (ويمكن أيضاً ألّا يتَحقَّقَ فيه هذا الشرط). ولكنّ التناظُر يفرض، في كلِّ حالٍ، نشوءَ مطالبةٍ يتعذّرُ ردُّها عادةً من قوّةٍ طائفيّةٍ مواجهةٍ (أو من أكثرَ من واحدةٍ) يتعَذَّرُ الاستغناءُ عنها. ولا شيءَ يمنعَ ألّا يكون هذا الاعتمادُ الآخر مستجيباً لمصلحةٍ عامّةٍ لها الجلاءُ نفسُهُ أو لها الأولويّةُ أو الإلحاحُ نفسُهُ في الأقلّ. بل إنّه لا شيء يمنعُ أن يكونَ الحافزُ إلى المطالبةِ مجرّدَ الرغبةِ في الانتفاعِ الماليِّ أو السياسيّ أو في كليهما. وذاكَ أنّ التناظُرَ النسبيَّ بين "حقوق" القوى الحاكمة هو المفترضةُ رعايته بالدرجةِ الأولى، ويبقى سواه من الأمورِ الحَريّةِ بالاعتبارِ لاحقاً به، وهذه بالضبط هي المناهَبة.

الفسادُ المستوي سياسةً عامّةً
على أنّ هذا المثالَ الذي عرَضناهُ لا يستغرقُ من المناهَبةِ إِلَّا أقَلّها. فهذه لا تقتصَرُ على اعتمادٍ عارِضٍ يناقشُ في مجلِسِ الوزراءِ، وإن يكن جسيماً. قد تكونُ الحالةُ حالةَ توظيفٍ في سِلْكٍ ما، مثلاً، فيُزادُ العددُ كثيراً، لا لحاجةٍ إلى زيادتِهِ، بل لرعايةِ مبدأِ التناظُرِ النسبيّ، أي على سبيل المناهَبةِ: المناهَبةِ السياسيّةِ ذاتِ الوقْعِ على الإنفاقِ العامّ، بطبيعةِ الحال. إلى ذلك، أصبَحَت بنيةُ المناهَبةِ مجسّدةً في مؤسّساتٍ عامّةٍ راسخةٍ وفي التوزيعِ الطائفيّ لقيادةِ مؤسّساتٍ أخرى وفي تعدّدِ المؤسّساتِ ذاتِ الوظيفةِ الواحدة. بدأ هذا في مدّةِ الحربِ واستشرى بعدَها. ومن ثمراتِهِ المجالِسُ والصناديق المعلومةُ، وهي مدموغةٌ كلُّها بالطابعِ الطائفيّ وإن تفاوتَت حدّتُه من واحدٍ إلى الآخر. من الثمراتِ أيضاً تطييفُ مؤسّساتٍ أمنيّةٍ زيدَ عددُها وعديدُ كلٍّ منها وباتَ الولاءُ الطائفيّ لبعضِها نذيراً بتوظيفِهِ في النزاعِ السياسيّ، أي باتّخاذِهِ أداةَ تنكيلٍ بمنْ يعارضُ وليَّ أمرِهِ من بين المواطنين. من ثمراتِ المناهَبةِ أخيراً وسْمُ الوزاراتِ نفْسِها بمَيْسَمٍ طائفيٍّ يبتغي الثبات وما يتبَعُ ذلك من توجيهٍ للإنفاقِ فيها ولتكوينِ أجهزتِها وتوزيعِ مراكزِ القرارِ فيها بمقتضى ولاءِ الوزيرِ ومصلحتِهِ، ما أمكَنَتْهُ من ذلكَ صلاحيّاتُه أو نفوذُهُ الذي قد يتعدّى الصلاحيّات. ذاكَ ميسَمٌ لا يعوزه البروزُ في أجهزةِ مجلسِ النوّابِ أيضاً ولا في الجهاز القضائي...

المناهَبةُ، والحالةُ هذه، ليست مرادفاً للفساد. أو هي الفسادُ المستوي سياسةً عامّةً للمالِ العامّ في ظلِّ مبدإ التناظُرِ الطائفيّ. ما يُعْرَفُ بالفسادِ عادةً هو الاقتطاعُ غيرُ المشروعِ من المالِ العامّ لمصلحةٍ خاصّة. أو هو، في حالةٍ أخرى، تغريمُ المواطنين دون وجهِ حقٍّ لغرضِ الانتفاعِ الخاصّ. ويدخُلُ في بابِ الفسادِ التهرُّب من أداء حقوقِ الدولةِ المختلفةِ ومواطأةُ المسؤولِ للمتهرّب. يتَمَثَّلُ الفسادُ، على الإجمالِ إذن، بالعُمولاتِ وبالرشى وبالصَرْفِ الموضعيِّ للنفوذ. ويمكنُ أن يوجبَ طلبُ العمولةِ والرشوةِ تضخيمَ النفقةِ المطلوبةِ للعَمَلِ المنفّذ أو الإغضاءَ عن سوء تنفيذه طلباً من جهةِ المنفّذِ لتقليصِ أكلافِه. هذا كلّه شائعٌ في تقاليدِ العملِ الإداريّ في لبنان وتقاليد التدخُّلِ السياسيِّ فيه وفي توزيعِ المشاريعِ على المنفّذينَ، إلخ. على أنّ نطاق المناهَبةِ يتخطّى هذا النطاقَ بأشواط. فالمناهبةُ، إلى اشتِمالِها على هذا، مشتَملةٌ على سياسةِ التصرّفِ بالمالِ العامّ بسائر وجوهِها المتحرّكة، أي باستثناءِ نواةٍ مشروعةٍ يتوزّعُها مستحقّونَ رواتبَ وأجوراً وخدماتٍ مختلفة أو تذهبُ بدلاً عادلاً لتقديماتٍ مسوّغةٍ بالمنفعةِ العامّةِ إلى جهاتٍ واقعةٍ خارجَ نطاقِ أجهزةِ الدولة.

هذا وتُحَتِّمُ المناهَبةُ نَفْخاً مضطَرِداً لحجمِ الإنفاقِ العامِّ تدفَعُ إليهِ جزئيّةُ المصالح التي تمليه وضعْفُ النظر، بالتالي، إلى المصلحةِ العامّةِ وما تفرضه من سقوفٍ، رعايةً لإمكاناتِ الدولةِ والبلاد. فالمناهبةُ مجلبةٌ لفقّاعةٍ ماليّةٍ لا يعرِفُ تضخُّمُها حَدّاً... غيرَ إفلاسِ الدولة. وما من ريبٍ في أنّ فتحَ باب الاستدانةِ على مصراعيهِ، غَداةَ الحرب، هو ما جعَلَ هذا المسلكَ متاحاً. وقد فرضَ دمارُ البلادِ اللجوءَ إلى الاستدانة ولكنّ مهمّةَ الإعمارِ كانت شيئاً وكانت كيفيّاتُ تنفيذها وسياسةُ الإنفاقِ التي تواصلَت في أعقابِها شيئاً آخر.

الفقاعة الهائلة
ولعَلّ مصطَلَحَ الفسادِ كان كافياً لتسميةِ وجوهٍ للانتفاعِ غير المشروع عرفتها العهودُ السابقةُ للحرب. وقد سارَ ذكرُ الفسادِ على الألسنةِ، في بعضِ تلك العهودِ، نثراً وشعراً. ولكنّ التصرّفاتِ التي كانت تدخُلُ تحتَ هذا الباب كانت محدودةً بحجمِ الدولةِ في أيّامها ومضطرّةً إلى لزومِ سقفِ المواردِ التي كانت متاحةً لهذه الأخيرة. فلم يكن الدينُ العامّ قد دخل، أيّامَها، في أعرافِ الدولةِ الماليّة. بل إنّ المؤسّسات الماليّة كانت كثيراً ما توفّرُ على الدولةِ عبءَ الإنفاق على السياسيّين أو جانباً منه، في الأقلّ، مبتغيةً دفعَ أذاهم أو الدفاعَ من خلالِهم عن نظامٍ هم سَدَنتُهُ وهي المتنعّمةُ بمزاياه. آيةُ هذا كلِّهِ أنّ الفقرَ والنقصَ بقيا غالبين، في تلك العهودِ، على البنى التحتيّةِ وعلى التجهيزِ العموميّ فيما راحت تتكاثرُ، في أيّامنا هذه، مرافقُ تفيضُ عن الحاجةِ أو تبقى غير مستثمرة ويكون التربّحُ الماليُّ أو السياسيُّ هو الداعي الأوّل إلى إنشائها: من مدارسَ شبه فارغة من التلاميذ إلى مستشفياتٍ لا تجهّز، إلى طرقاتٍ وشبكاتٍ مختلفةٍ يعادُ تأهيلها بلا سببٍ معلوم، إلى مبانٍ خاصّةٌ تستأجرها الدولةُ ببدلاتٍ مَهولة، إلخ.

ليست المناهَبةُ فسادَ الأيّامِ الخوالي، إذن. قد يجوزُ اعتبارُها مواصَلةً للنَهْبِ العظيم الذي شهِدَتْهُ أعوامُ الحربِ، وبعضُ فرسانِها هم، في أيِّ حالٍ، بعضُ فرسانِه. وهي نهجٌ سياسيٌّ بامتيازٍ ملازِمٌ للطورِ الذي انتهى إليه نظامُ لبنان الطائفيّ وليست بحالٍ مجرّدَ انحرافٍ في طريقةِ تدبيرِ المالِ العامّ. لذا راحت تتخّذُ صفةَ السُنَّةِ المؤسّسيّةِ العامّةِ مدخلةً منطقَ التناظر الطائفيّ، وهو منطقُها، إلى خلايا الدولةِ كافّةً وغيرَ متعّظةٍ، فيما هي تنفُخُ فقّاعَتَها الهائلةَ، بنبوءاتِ انفجارٍ يعقبُه انهيار.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024