الحريري هو نفسه: التراجع بلغة هجومية

منير الربيع

الأربعاء 2018/11/14

 

محاطاً بحرسه القديم والجديد، النواب والوزراء الحاليين والسابقين، خرج الرئيس سعد الحريري إلى مؤتمره الصحافي، بشعار "لا تراجع ولا ثورة". أوحى الحريري بأنه مستعدّ لقلب الطاولة في سياق كلامه الجديد، والذي أعلن فيه للمرة الأولى أنه لا يريد أن يتعاطى من مبدأ "أم الصبي". و"لم أعد قادراً على إقناع نفسي بنظرية أم الصبي". وهذه مؤشر إلى أنه غير مستعد لتقديم تنازل من حصّته لصالح وزراء سنة ٨ آذار. لكنه لم يحدد موقفاً واضحاً إن كان سيوافق على منحهم وزيراً من حصّة غيره، على الرغم من توجهه إلى حزب الله بالسؤال "إذا كنت حريصاً على توزيرهم، فلماذا لا تمنحنهم من حصتك؟"

ظاهرياً، التزم الحريري بحدود سقفه السياسي نسبياً، ولكن في المضمون أبدى إيجابية تجاه توزير من يمثّل نواب "سنّة حزب الله".

 

لا فيتو

الكلمة المفتاحية التي قالها الحريري، كانت احتفاظه بالسرّ أو الأسرار التي بينه وبين الوزير جبران باسيل. قال أكثر من مرة: "لا أريد أن أتكلم عن ما يقوم به جبران، ولن أكشف عن ما بيني وبين جبران". يوحي هذا الكلام إلى أن لدى الحريري معطى إيجابياً ناله من حراك باسيل، والذي قد يصل إلى صيغة مقبولة من الجميع. وما هذا الكتمان إلا حرص على تحقيق نتيجة مُرضية.

الصيغة المحتملة قد تتجسد بتسمية رئيس الجمهورية شخصاً يرضي الجميع ويحلّ "العقدة السنّية". وحراك باسيل هو الذي دفع الحريري إلى التغاضي عن الفيتو الذي كان يرفعه بوجه توزير هؤلاء. وبالتالي أصبح موافقاً بشرط عدم النيل من حصته. كما أنه لم يقطع بكلامه خط التواصل مع حزب الله، إذ ركّز على وجوب إيجاد حلّ. فيما الحزب اعتبر كلام الحريري مقبولاً، ولن يردّ عليه.

 

ردّ الحريري على خطاب أمين عام حزب الله بنبرات مختلفة (حدةً أو ليونة)، وبمستويات متعددة (عتباً أو لوماً). حمّل الحزب مسؤولية التعطيل، وإن تحاشى الإشارة إلى أسباب خارجية قد تحتّم ذلك. وهو شدّد أنه سيواجه أي محاولة لإرساء أعراف جديدة في آلية تشكيل الحكومات. ما يعني لفظياً أنه لن يرضخ لحزب الله. لكنه ضمنياً يفعل ذلك.

الحريري ليس قادراً إلا على فعل "الانتظار"، واختصر ذلك بالقول: "تشكيلتي جاهزة، ولكن تحتاج لأسماء وزراء حزب الله والذهاب إلى توقيع مراسيمها". داعياً الحزب إلى الإفراج عنها. وهذه الدعوة بحدّ ذاتها، عرفٌ جديدٌ جرى تكريسه: صاحب الغلبة والقوة يقرر آلية تشكيل الحكومة، ويصبح شريكاً في تأليفها إلى جانب رئيسي الجمهورية والحكومة.

 

أبو السنّة

في التعبير والأداء، وفي سياق الرد على خطاب نصر الله، الذي قرأ فيه الحريري استنفاراً وشدّاً للعصب الشيعي، أراد رئيس "المستقبل" شدّ العصب السنّي. ولهذه الغاية، رأينا الترتيب المشهدي مع حضور مختلف القوى السنّية، بما فيهم الرئيسين تمام سلام وفؤاد السنيورة، وحتى الرئيس نجيب ميقاتي الغائب جسدياً حضر عملياً، من خلال ما كشفه الحريري عن تفاهم معه على توزير شخص من حصته، واعتراف الحريري بأن لميقاتي كتلة نيابية.

 

كان الوزير نهاد المشنوق آخر الواصلين. ربما في إصرار منه على التمايز. حضر في منتصف كلمة الحريري تقريباً. وبعد وصوله بدقيقتين، ارتفعت نبرة الحريري سنّياً وعيناه مصوبتان نحو وزير الداخلية الجالس في أول الصفوف، إلى جانب "فريق" الحريري، باسم السبع وغطاس خوري، وعلى يمين نائب رئيس مجلس النواب السابق، المبتعد عن المشهد أيضاً، فريد مكاري، قائلاً: "أنا بيُّ السنّة في لبنان وأعرف ما هي مصلحتهم". علا التصفيق في القاعة بادعاء الحريري أبوة السنة. صفّق الجراح والسنيورة وكل النواب السنّة في الصف الأمامي، باستثناء المشنوق، ومكاري وخوري وباسم السبع. بعض الحاذقين اعتبرها رسالة موجهة إلى المشنوق، الذي رفع منسوب التعبئة سنياً، وانتشرت عبارات بين العامة تعتبره "ضمير السنّة"، وهو الذي كان قد أطلق موقفاً قبل أيام من دار الفتوى واصفاً إياها بـ"مرجعية السنّة" (سياسياً).

 

التسليم بالواقع

حاجة التعبئة سنياً، لها هدفها السياسي المحض، وإن أثارت حفيظ بعض "المستقبليين" و"الحريريين"، الذين ما زالوا يؤمنون أن "تيار المستقبل" عابر للطوائف. وفيما هو يعلن تلك "الأبوة" (لم يضطر رفيق الحريري يوماً إلى ذلك)، أكد سعد الحريري إنه لا يريد "احتكار" الطائفة السنية، إذ منح وزيراً لرئيس الجمهورية، وتفاهم على آخر مع الرئيس نجيب ميقاتي. هكذا، أوقع الحريري نفسه في تناقض، من الأفضل تأجيل السجال فيه، بهذه اللحظة "المستقبلية" الحرجة.

 

دردشة مع "المدن"

ثوابت الحريري بقيت على لسانه، وإن بصيغة مغايرة هذه المرّة. كرر أنه ابن مدرسة رفيق الحريري، التي علّمته التنازل لمصلحة البلد، والوفاء للبلد، وليس للمناصب واحتكار المواقع. وهذه رسالة موجهة للقريبين والبعيدين. أما متلازمته الأساسية المتعلقة بالحفاظ على الاستقرار والاقتصاد فلم يملّ من تكرارها، معلناً رفض مقولة نهاية اتفاق الطائف.

 

حاولت "المدن" الاستذكار مع الحريري، ما قاله قبل سنتين في القاعة ذاتها، لدى إقدامه على إعلان دعم ترشيح الجنرال ميشال عون للرئاسة. يومها أعلن الحريري أنه يقدم على هذه الخطوة لحماية الاستقرار والمؤسسات، والحفاظ على الوضع الاقتصادي، وحماية الطائف.

 

في دردشة معه، سألت "المدن" الحريري عن الواقع الحالي، بعد الانتخابات النيابية، حيث المؤسسات معطّلة، والتقارير الدولية تشير إلى الإقبال على شفير انهيار اقتصادي، والطائف بات بحكم المنتهي. فيجيب:" الوضع الاقتصادي صعب، ولكن عملية تشكيل الحكومة محاولة للإنقاذ، خصوصاً ان مساعدات مؤتمر سيدر تنتظر تشكيل الحكومة والبدء بعملية الاصلاح". ولكن ماذا عن المؤسسات وتعطيلها؟ يجيب الحريري بأن لا هو ولا عون ولا العهد من يتحمّل مسؤولية ذلك.

أما اتفاق الطائف، فـ"لا بد من الحفاظ عليه". ولكن السؤال التلقائي: "ألا يعتبر عدم تسليم فريق لأسماء وزرائه قبل تحقيق شروطه، تعديل فعلي للاتفاق؟ بل وينهي مضمون حصرية الشراكة الدستورية بين الرئيسين في عملية التشكيل؟ يجيب الحريري (بشيء من الحسرة وبنوع من التسليم): هناك واقع سياسي في لبنان، ولا يمكن تشكيل حكومة غير توافقية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024