براءة سوزان الحاج: تستحقين أن تحكمي البلد

منير الربيع

السبت 2019/06/01
لا نعرف إذا ما كانت هذه السطور، قد تدفع بعض أصحاب الرؤوس الحامية، إلى شدّ أحزمة البؤس في عقولهم، ودبّ الحمية، "حرصاً على سمعة القضاء" وميزان عدله، فيصدرون تعقباً أو ملاحقة أو مذكرة جلب أو توقيف، بحق الكاتب. "الجمارك" فعّالة جداً على الكلام في لبنان، وقد يُزجّ صاحبه في السجن، او يكلّفه حياته أو سمعته. الكلمات، قد يصيبها الرصاص أو تتلقى اللكمات، في بلد لا حق فيه ولا حقيقة. الحقيقة مختزنة بالمصادرة عند طغمة. والاقتراب منها قابل لإحراق المقترب.


الصداع والاختناق
وإذا ما كتبنا، فلمن يكون اللجوء لحظة الاستهداف؟ يحكى لنا عن سلطة ثالثة، منفصلة عن سلطات السياسة، هي ملاذنا ومأمن جنباتنا. لكن، على ما يبدو، مسند الرأس فيها فارغ، خاو. ما أن تسند رأسك حتى تهوي. إبرة الميزان معطّلة. اختلال فادح في هيكل العدالة، ولا ينجو من انكسار قوسها إلا المحسوب في شلل المحاصصين للسلطة. تسمع خبراً، وتقرأ حكماً، فيصيبك بصداع لا مفرّ منه.. يصرعك بين محاولة التجاهل، ومآلها الاختناق، أو الصراخ مهما كلّف الثمن.

المتهم بريء حتى تثبت إدانته. لكننا ندان لمجرّد الكلام. ليس ما يضمن البراءة هنا غير الانتماء إلى أصحاب النفوذ والإستلحاق بعصبة السلطة. أدين زياد عيتاني قبل إصدار الحكم، وبرّئت سوزان الحاج قبل توجيه التهمة إليها. وإيلي الغبش، وهو مخبر صغير قابل للعمل على تدمير حيوات الكثيرين و"خراب بيوتهم"، يدفع ثمن ما يؤمر به وحيداً. يضيع وسط غبار الخيول. فالصورة المتخيلة هنا، تحيلك سريعاً إلى رأفة الجاهلية ربما، أو إلى "جمالية" مزرعة الحيوان، مقارنة بحظيرة يأبى مجتمع بأسره الخروج منها.

المحكمة العسكرية 
سلطة القضاء المستقلة، فريدة لدينا. مكرّسة للقضاء على طامح أو حالم أو لاجئ طلباً للعدالة، ومستقلّة عن أدنى مقومات إرساء العدل. المحكمة نفسها برأت ميشال سماحة ذات يوم، وتبرئ سوزان الحاج، وقابلة لتبرئة أي مرتكب آخر، قادر على فبركة ملف اتهام بالعمالة، أو بتجارة المخدرات أو إلصاق تهمة مربحة في هذه الأيام، ولها رواجها، كتلك التي يُطلق عليها عنوان "تنظيم إرهابي". فإما أن تدان تعاطفاً أو تشاركاً أو تأييداً لهذا الإرهاب، الذي لا تعريف له، وقابل لأن يكون قائماً فقط لمجرّد اختلاف بالرأي، أو تعبير عن موقف مخالف للسرديات المنمطة التي يسعى المستحكمون إلى فرضها.

طُرح كثيراً في السابق، مشروع إلغاء المحكمة العسكرية، وحصرها بمحاكمة العسكريين. لكنها عملياً ليست بمحكمة عسكرية، هي محكمة سياسية، تبرم الأحكام فيها وفقاً لمقتضيات المصلحة السياسية، وغالباً ما تكون التسويات فيها في لحظة الفظاظة مخرّجة على قاعدة 6 و6 مكرر، كحال تبرئة زياد عيتاني بعد توقيفه لأشهر وسحقه معنوياً ومادياً، مقابل تبرئة سوزان الحاج دون توقيفها على ذمة التحقيق حتّى.

والمفارقة الأكثر كارثية، أن أحد القضاة، والذي قدّم مطالعة تلخّص انتفاء العنصر الجرمي بالتهمة الموجهة إلى الحاج، كان في العام 2017، قد طلب بنفسه الإدعاء على زياد عيتاني، وفيما بعد طلب بتبرئته، وهو نفسه طلب الإدعاء على سوزان الحاج في العام 2018، وعاد ليطالب بتبرئتها في العام 2019. قد يعجز آينشتاين عن فك طلاسم سرعة هذه التنقلات النوعية. والحاج التي أرادت إفهام من اتخذ قراراً بإزاحتها من مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية، بأن أمن البلد الكترونياً ممسوك من قبلها، عمدت إلى شنّ حملات على مواقع الوزارات والإدارات.. يُقابل فعلها هذا من قاضٍ يريد الإثبات للجميع أنه صاحب الكلمة الفصل أمنياً وقضائياً، بمطالبته ببراءتها! بل ويتوجه هذا القاضي إلى إيلي غبش قائلاً: "انت قلتلي انك مبسوط عن فرع المعلومات؟ خليك عند المعلومات".

تكفيراً عن ذنبنا
معارك الحاج الجموحة والطامحة لتبوأ أرفع المناصب في الدولة، والتي كانت تأمل أن تتولى رئاسة أحد الأجهزة الأمنية، تقابلها معارك من نوع آخر بين أحد القضاة وقوى الأمن الداخلي، وهذا الصراع هو الذي دفع القاضي للحضور بنفسه إلى قاعة المحكمة، طالباً بوقف التعقبات بحق المقدم سوزان الحاج.

ربما صرخات التهنئة بتبرئة الحاج لا تكفي، ونرجو للتكفير عن ذنوبنا، وغسل ما اقترفته أيدينا، وبعد إقرارنا بهكذا "حقيقة"، لا يمكننا الاكتفاء بتبرئة سوزان الحاج. ولا يمكن إبقائها على رأس مكتب في جهاز أمني واحد، إنها نموذج يستحق التعميم: "أنت يا سوزان الحاج صغير عليك جهاز أمني، وصغيرة أيضاً كل الأجهزة الأمنية بأمرتك.. أنت تستحقين أن تحكمي البلد أقله. وإذا شعرت بضيق مساحة هذا البلد، فلك حكم العالم".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024