وفي فرنسا..شُتم جبران باسيل أيضاً

رشا الأطرش

الأحد 2019/10/20
"ماما بعتيلي زعتر"... لافتة حملها شاب عشريني في التظاهرة التي تداعى إليها اللبنانيون في ساحة تروكاديرو في باريس، ظهر اليوم الأحد. وبعد الابتسامة التي تستجرها ظرافة العبارة، والمبنية على فكرة أن الكاميرات التي تصوّر الحدث حتماً ستنقل مطلب الشاب إلى أمه في لبنان، سيكتشف الواحد منا أن اللافتة، فعلياً، أعمق من بساطتها الأوّلية. فهي تقول إن اللبنانيين اليوم موصولون، ليس فقط داخل حدود وطنهم، وخارج حدود انتماءاتهم الطائفية والمناطقية والحزبية، بل إنهم موصولون الآن أيضاً، أينما كانوا حول العالم، برابط خفيّ وبيِّن: الأمل، الذي عبّرت عنه يافطة أخرى كُتب فيها: "إنتو الحلم.. شكراً"، إذ خاطبت، مباشرة، الحشود التي رآها لبنانيو فرنسا عبر شاشات التلفزيونات ومواقع التواصل الاجتماعي. 

فكل بيت لبناني له ناس في الخارج، على ما تقول الأمثولة اللبنانية الشهيرة. كل بيت يتلقى، منذ عقود، تحويلات مغتربيه التي لطالما كانت أحد الروافد الأساس للاقتصاد اللبناني... ثم لعبت السلطة لعبتها بالدولار والليرة اللبنانية. كل بيت لبناني يرتبط بناسه في الخارج، أولاد وأخوة وأحفاد وأصدقاء، باتصالات "واتسآب" وأشباهها، والتي خففت وطأة الغربة، وجعلت أولاداً ربما لم يروا لبنان في حياتهم، يرون "تيتا" وصحن مجدّرتها الشهير ولا ينسون هيئة "جدّو"، فيما الأهل يرسلون الفيديوهات والتسجيلات عن أحزانهم وأفراحهم، خطوات صغارهم وتلك الكلمات الأولى، كي لا تنتصر المسافات على الحب ومشاركة العيش... ثم قررت الحكومة أن تقترح تغريمهم ضريبة هجرتهم للمرة الألف. كل بيت لبناني تضرر، بشكل مباشر، أو من بعيد، بمئات الحرائق التي التهمت غاباتٍ وأراضيَ وبيوتاً، وعَرَّت رماد البلد الذي لا فينيق تحته ولا أدنى حسّ بالمسؤولية من قبل الدولة المافيا. ولذلك، نزل اللبنانيون، في لبنان، وفي ما يحلو لجبران باسيل تسميته بلاد "الانتشار" التي دأب، منذ سنوات، على استهدافها بالبروباغندا اللبنانوية الشعبوية خاصته، بمغريات استعادة الجنسية وأسحار "تكثير" المسيحيين على طريقة المسيح في عرس قانا. وهي المغريات والتسهيلات التي رفدها محلياً بالسطو على إدارات النفوس والأحوال الشخصية، ليس من أجل اللبنانيين واللبنانيات، وحقوق المواطنة، بل، كما هو معلوم، من أجل الانتخابات، تفريع مجسّات السلطة، المزيد من الهيمنة، وقهر أطفال اللبنانيات المتزوجات من أبناء "دول الجوار" بحرمانهم من جنسية أمهاتهم.



(غيتي)

"هيلا هيلا، هيلا هيلا هووو، جبران باسيل (..) أمّه". هنا، في قلب باريس، حيث التجأ ميشال عون وأقام سنوات، وحيث شُرخت الأسطوانة المكرورة عن قوة/شعبية التيار العوني وايديولوجيته بين مواطنيه الفرنسيين، شُتَم باسيل. شتَمه، عشرات المرات، نحو خمسة آلاف لبناني، معظمهم من الشباب، وبينهم عائلات مع أطفال ورضّع. هكذا، سافرت شتيمة باسيل من بيروت إلى باريس. لم تنَل منها الرحلة ولا أخمدها المطر الهاطل على الهاتفين ومظلاتهم. بل صدحت طازجة ساخنة كرغيف "باغيت" خارج للتو من الفرن. والطفل الذي كان جالساً على كتفَي والده ويرفض النزول، حثّ صبية قريبة على القول مازحة: "حدا بيكون قاعد هالقعدة وبينزل؟"، ليجيبها الأب بحبور: "مفكّر حاله ميشال عون!". 


"عون راجع (إلى فرنسا)".. عن "تويتر" يورغو بيطار

سُمعت بين بعض المعتصمين أسئلة تستغرب نسيان حسن نصر الله، حتى علا صوت إحداهن بحماسة: "كلّن يعني كلّن.. ونصر الله واحد منّن"، فجاراها الواقفون على مقربة، ضاحكين مؤيدين. لكن العدوى لم تسرِ بالزخم المطلوب. فمكبّر الصوت لم يكن بالفاعلية المطلوبة، وبعض المجموعات لم تسمع ما تهتف به مجموعات أخرى. لكن المهم أن شتيمة نصر الله لم تستجرّ استهجان أحد. بل بدت، على محدوديتها، طبيعية مفرحة. وهذا، في حد ذاته، خرق للمقدس والمكبوت والمخيف، تماماً كما خُرقت مقدّسات الشعبوية الباسيلية في بلاد الفرانكوفونية.

كان الشباب في "تروكاديرو" هم الغالبية. كلامهم أكثره بالعربية اللبنانية. "هاي ويللا، حكومة اطلعي برا"... و"الشعب يريد إسقاط النظام". قلما سُمعت الفرنسية. قد يكون معظمهم من الوافدين الجدد إلى فرنسا، طلاب جامعات أو كفاءات مهاجرة، ولغتهم لا تزال حيّة فيهم، وليسوا جيلاً ثانياً أو ثالثاً. أو ربما هي الغالبية التي لم تنقطع صلتها بمسقط رأسها. هؤلاء أكثر مما يقترحه الكليشيه عن لبنانيي فرنسا. نسمع صبية تشير لرفيقها إلى مكان تجمّع رفاقهما: "هونيك.. عند الـdrapeau francais avec le arze" (هناك عند العلم الفرنسي مع الأرزة). وإلى جانب العلم الأزرق والأبيض والأحمر، والذي تتوسطه أرزة، رُفعت لافتة بالفرنسية معناها: "الحرب الأهلية اللبنانية.. التاريخ المنسيّ"، وأخرى بالعربية: "نحنا بدنا نرجع.. انتو ما بدكن". فإن نُسِيَ بعض اللغة، فالأهم لم يُنسَ: الحرب التي لا رغبة في تكرارها، والاقتصاد الذي جعل لبنان طارداً لأبنائه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024