انتخابات نيابية في سجن جماعي كبير

محمد أبي سمرا

الخميس 2021/11/18
لعلّ شطرًا راجحًا من هذين الخواء والتبلّد الأسودين المتفشيين في حياة فئات واسعة من اللبنانيين، بوجوههما العامة والخاصة، الشخصية والفردية، تكمن أسبابُه غير المباشرة، أو غير المدركة والموعاة، في إطباق سجن جماعي كبير على الحياة في لبنان، وبدأت جدرانه غير المرئية ترتفع من حولهم وتضيّق عليهم مساحته يومًا بعد يوم.

كرنفال الخروج من السجون الرخوة
وربما راحت جدران كانتونات ذاك السجن العمومي الكبير تنتصب وتعلو، منذ تكشّفَ افتتانُ فئات لبنانية واسعة، شابة وفتيّة ووسطى في معظمها، عن مأساةٍ جديدة وغير مسبوقة، في خضم خروجها الاحتجاجي الكرنفالي المفاجئ إلى الساحات والشوارع العامة في 17 تشرين الأول 2019، وطوال أسابيع مشهودة، مدفوعةً برغبتها الاحتفالية في "التحرر" من غفلتها وسجونها "السياسية" والأهلية الرخوة الجدران.

ومن وجوه تلك المأساة غفلةُ المندفعين إلى كرنفال "التحرر" ذاك، وعدم إدراكهم إلا متأخرين كثيرًا، أن احتجاجاتهم لم تكن سوى احتفال وداعي سعيد لطلبهم الخروج من السجون السياسية السابقة التي كانت رخوة الجدران بعد، أهليًا وطائفيًا، ومناطقيًا وجغرافيًا. إذ كان يسعهم بعد أن يحلموا ويتكلموا ويرفعوا أصواتهم ويعيشوا ويقيموا في فسحات ودوائر وهوامش خارج كانتونات تلك السجون. لذا ربما كان خروجهم ذاك، احتفالًا وداعيًا لنمط عيشهم السابق، الذي تنعموا به منذ توقف الحروب الأهلية الإقليمية مطلع تسعينات القرن العشرين في بلادهم وعليها.

وها هم يدركون اليوم، متأخرين أيضًا، أن تلك السجون التي عاشوا فيها منذ التسعينات، وقالوا إنهم خرجوا عليها في كرنفالهم التشريني السعيد، كانت أرأف بهم بأشواط من هذا السجن الجماعي الذي أطبق على تفاصيل حياتهم كلها وجعلها سوداء وخرساء، بعد ذاك الكرنفال الذي كانت درته وذروته في "كرنفال الاستقلال" بساحة الشهداء البيروتية في 22 تشرين الثاني 2019. وها ذكرى استقلال لبنان الثامنة والسبعين تحلُّ كئيبة عجفاء بعد أيام قليلة.

السجن الجماعي الكبير
والسجن الجماعي أو المعتقل الكبير المطبق بسواده اليوم على حياة فئات واسعة من اللبنانيين، ويبعث فيها الخواء والتبلّد والمَحْق، هو سجن ذهني ومعنوي ومكاني ولغوي، ويكاد يكون شموليًا، وتشبه الحياة فيه العيش تحت احتلال غاشم في غموضه، وفي عدم القدرة أو السكوت عن تعيين نوع الاحتلال والمحتل وسبل مجابهتهما، إلا بالهروب منهما، أو مراوغتهما والسكوت عنهما إلى أن يقضي الله أو القدر أمرًا في زمن يستحيل تعيّنه.

ومن سُبلِ المراوغة الغثيانية وعناوينها اليوم، عبارات وكلمات منها: البطاقة التمويلية لإعاشة المنكوبين أو إغاثتهم، وهم فئات واسعة، تتسع وتتعاظم، من اللبنانيين. وتعطيل عمل حكومة السجن الجماعي الكبير، حتى إقصاء قاضٍ يحقق في كارثة مرفأ بيروت. والمفاوضات على ترسيم الحدود البحرية والبرية اللبنانية، ليتدفق النفط والغاز ثرواتٍ لإنقاذ بقايا سكان لبنان من الفقر والمجاعة.

أما الملهاة الإعلامية والإعلانية الأكبر في هذا السجن الكبير، فهي الانتخابات النيابية للمقيمين والمغتربين، أو المنتشرين حسب رطانة جبران باسيل السعيدة، ورهطه الأسعد برطانته.

ديمقراطية الولاءات الأهلية
ويعلم الجميع أن الانتخابات النيابية وسواها، منذ كان لبنان، ليست في وجهها الغالب سوى تمرين "أهلي ديموقراطي" على رد اللبنانيين من توزُّع حياتهم، تداخلها وتقطُّعِها وسيولتها، بين أماكن ودوائر السكن والإقامة والعمل والتعليم والتعارف والتخالط الاجتماعيين، إلى حِمى أو ربوع الأهل العتيقة، وإلى الولاءات العائلية والزعامية والمناطقية، ومفاتيح الانتخابات ووجهائها وأزلامها، التقليدية كلها والمتوارثة.

وكان يحدث ذلك في أوقات السلم أو الوئام الأهلي و"الخجل الطائفي" (أحمد بيضون) اللبناني، السابق على الحروب الأهلية (1975 – 1990). وهي كانت أوقات تجري فيها الانتخابات غالبًا، لتجديد تلك الولاءات وبعثها في نهارات تشبه عودة الشطر الأوسع من اللبنانيين إلى مرابع الأهل وديارهم، للاصطياف في بلداتهم وقراهم، أو للقيام بواجبات التهاني في الأعراس والعزاء في المآتم.

وكان أن طوت الحروب الأهلية تلك الأوقات والطقوس، ومنها الانتخابات النيابية والبلدية، التي كانت قد مالت إلى التكلّس، بسبب عدم قدرة النظام السياسي والانتخابي اللبناني على التجدُّد وعلى إدخال ديناميات وجوه جديدة إلى الندوة البرلمانية، إلا على نحو مخاتل للولاءات الأهلية والعائلية وعصبياتها، في بعض الدوائر الانتخابية القليلة. ذلك لأن النظام الانتخابي اللبناني المتكلّس، كان آنذاك يجرِّد معظم اللبنانيين من دوائر سكنهم وأعمالهم وتخالطهم الاجتماعي في المدن وضواحيها، ويعيدهم إلى ديارهم وولاءاتهم السابقة على السكن والعمل والتخالط، فيبعث تلك الولاءات العائلية والقرابية الهاجعة ويجدّدها في الانتخابات.

وطوت الحروب الأهلية "الديموقراطية الانتخابية الأهلية"، وحوّلت لبنان كله تقريبًا إلى ديار قتل وخطف وقصف على الهوية، وإلى فوضى وهجرات ومهجرين وكانتونات أو معازل طوائفية حزبية وميليشياوية مسلحة.

كرنفال الحرية في اختيار الزعماء
أما في حقبة ما بعد الحروب، وفي ظل اتفاق الطائف، فتكرست برعاية النظام السوري الأمني انتخابات نيابية ركنها الأساس الفوز فيها للميليشيات المنتصرة في الحرب، والموالية لذاك النظام الذي هندس انتصارها الحربي ورعاه، واستتبعها في زمن السلم الأهلي البارد. وبعض من حاول اخيرًا الخروج على انتخابات نيابية يهندسها النظام الأمني السوري-اللبناني المشترك، جرى اغتياله ما بين 2005 و2011، ودخل لبنان في زمن سياسي رمادي مضطرب، وبدأ بذلك الكرنفال الكبير والسعيد في 14 آذار 2005، تحت شعار "الحرية والسيادة والاستقلال".

لكن الكرنفال ذاك لم يتكشَّف أخيرًا، إلا عن استعادة اللبنانيين المحرومين من حرية اختيار زعمائهم، مقدرتهم على وتمكينهم من اختيارهم وإيصالهم إلى سدة النيابة والحكم والرئاسة والسلطان. وظل التمرين على الاستعادة والتمكين يتناسل في الانتخابات النيابية السلطانية التي يتصدرها زعماء الرهوط الأهلية الطوائفية، حتى تكشفت الأخيرة منها سنة 2018، عن تكلّسٍ وجمودٍ مرهقين وقاتلين.

انتخابات التكلّس والاحتضار
ومن قلب ذلك التكلّس والجمود انبثق كرنفال 17 تشرين 2019 السعيد. فإذا به كرنفالٌ وداعي لرخاوة السجون الأهلية الطوائفية، وإيذانٌ بارتفاع جدران السجن الجماعي الأسود الكبير وكانتوناته على حياة اللبنانيين الحالمين بمغادرة سجونهم الرخوة السابقة. وهم غالبًا من الأجيال الشابة والفئات الاجتماعية الوسطى التي استبدلت حلمها ذاك بآخر: الفرار من لبنان السجن الجماعي الكبير، أو من لبنان الاحتلال الملتبس والغامض.

وها من تبقى من اللبنانيين المرهقين في هذا الخواء والتبلّد الأسودين، موعودين بانتخابات نيابية غامضة في هذا السجن الجماعي الكبير، الذي أطبق عليهم ومحقهم وأخرسهم. لذا قد تكون الانتخابات النيابية، في حال إجرائها، تمرينًا متجددًا على إحكام كانتونات هذا السجن وجدرانه على أنفاس اللبنانيين المحتضرين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024