سمو السياسيين اللبنانيين ونبلهم!

يوسف بزي

الخميس 2020/12/03

الأشخاص الذين يؤلفون اليوم نظام الحكم في لبنان، ويملكون نفوذاً سياسياً واقتصادياً، ويصوغون القرارات ويديرون شؤون البلد، يشتركون معاً باعتقاد راسخ أنهم "أبرياء". لا يخالطهم أي شعور بالذنب أو الخطيئة. إنهم مؤمنون بكل جوارحهم ليس فقط ببراءتهم. بل أيضاً بسموهم ونبلهم وتفانيهم وغيريتهم.

كل واحد منهم ينظر إلى نفسه على أن عمله وسياسته وخلافاته وخصوماته وتحالفاته.. هو الصواب الذي سيأتي بالإنقاذ والخلاص والازدهار والسعادة. وكل واحد منهم شديد الإيمان باستثنائيته كشخص منذور للصالح العام، أو على الأقل لخير جماعته وملّته.

لا يعتري أي واحد منهم أدنى شك بأخلاقه أو سلوكه أو كفاءته. لكن بالمقابل، لدى كل واحد من هؤلاء اعتقاد راسخ بأن كل منافس أو ندّ له هو الفاسد وهو المخطئ وهو سبب البلاء.

على هذا، راحة الضمير التي يتمتع بها هؤلاء مذهلة. وقد يبدو شخص مثل جبران باسيل نموذجاً فاقعاً على ذلك. لكن جميعهم يشاطرونه السمة نفسها. الرئيس ميشال عون ذروة في التعبير عن تصالحه مع نفسه. حتى وليد جنبلاط حين "يعترف"، فإنه يحوّر الاعتراف من باب للإدانة إلى برهان على تطهره.. وعلى تفوقه الأخلاقي على أنداده، في مخاتلة لتقليد كاثوليكي مريح.

حين نشاهد رياض سلامة ونسمعه، أو حين ننصت لواحدة من مرافعات الرئيس نبيه برّي، يخالجنا الظن للحظات أننا لا نفعل سوى الافتراء عليهما، وإننا سيئو النوايا تجاههما. ناهيكم طبعاً عن الاستماع إلى حسن نصرالله ومهامه التاريخية واستقامته الدينية وصورته كحامل لراية الحق والمظلومين. وقد لا ينافسه في هذا المجال ربما سوى صورة الترهبن التي يقيم عليها سمير جعجع، رغم التفاوت في الأثر والقوة بينهما.

الأدهى من ذلك أن التعبير عن الشكوى والتظلم الذي يردده اللبنانيون يبدو ركيكاً وضعيفاً إذا ما قارناه بخطاب أي واحد من هؤلاء الذين يبرعون تماماً في إقناعنا بمدى شعورهم العميق بكل شكوى وتظلم. وقد يبدو سعد الحريري أفضل مثال على ذلك. فهذا الأخير، يستيقظ كل يوم مقتنعاً أن الآخرين يمنعون عنه فرصة تحقيق "الرؤيا" التي ستجعل لبنان فردوساً.

يحلم كل واحد منهم بحلم واحد: امنحوني السلطة المطلقة بلا أي عرقلة أو اعتراض أو تشويش. امنحوني الولاء.. وخذوا مني ما يدهش العالم. سوف أحقق الخلاص والرفاهية والعدالة. أنا منقذكم.

ليس شعار "ما خلّونا" خاصاً بالعونيين. إنه أرومة العقل السياسي اللبناني. المرجعية الأصلية للتبرؤ من أي مسؤولية. قاعدة أولى في راحة الضمير لكل "زعيم" أو جماعة سياسية.

لديهم "تدبير" أخلاقي جاهز دوماً، رأيناه وعرفناه على نحو جلي في 4 آب 2020: الكارثة هي قضاء وقدر. كل أزمة أو مصيبة أو خطيئة صنيعة الزمن والكون وقوانين الفيزياء والطبيعة. عدا ذلك، افتراء وتجنٍّ. وأي ميل للمساءلة والمحاسبة هو انحراف نحو ارتكاب الظلم وتشويه السمعة والكيدية السياسية.

هذا كله بالضبط ما يمنحهم ويُكسبهم شعبية لا شك فيها. لكل واحد منهم أتباع كثر، جمهور وفيّ، متمسك ومؤمن بصورة مخلصه وقائده، يدافع عنه باستماتة فعلية. أي إلى حد بذل المال والدم.

المعضلة الكبرى أن ما أصابنا على نحو مريع وفتاك كالفساد، والانهيار الاقتصادي، والإفلاس المالي، والحرب الأهلية الباردة، وانحطاط نوعية الحياة.. لا يمكننا هكذا بسهولة ويقين وبساطة أن نقول مثلاً أن أولئك الستة أو السبعة "الكبار" وحدهم يتحملون مسؤوليته. تلك خفة قاتلة. بل إنه أمر مهين للذكاء العادي، بالقدر ذاته إن أرجعنا كل ما حدث إلى القدر.

على هذا المأزق تقوم فكرة أسوأ: "الجميع يتحمل المسؤولية". فكرة تطيح عملياً بأي محاولة للمساءلة والمحاسبة. ولذا، فقدت "الفضيحة" كل معنى. إنها الآن كل السياسة، مصيرنا الدائم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024