العدالة والطائفة خطان متوازيان لا يلتقيان

يوسف بزي

الإثنين 2020/12/14

انتهت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان إلى نتيجة هزيلة. حصيلة 15 عاماً من عملها كانت محبطة، على نحو يعمق غربة اللبنانيين وسائر سكان الشرق الأوسط عن مؤسسات العدالة.

إعلان هذه المحكمة عن أحكامها بحق المدان الوحيد بجريمة اغتيال رفيق الحريري، بالكاد أخذ حيزاً من اهتمام الجمهور. كان خبراً ميتاً وعديم الأثر. ورد فعل اللامبالاة هذا أتى تعبيراً عن الخيبة من العدالة الدولية، التي عوّلوا عليها ربما أكثر مما تطيق، تعويضاً عن انعدام ثقتهم بالعدالة المحلية.

ظن الشطر الأكبر من اللبنانيين أن تأسيس المحكمة الدولية الخاصة، سيفتتح عهداً جديداً لا إفلات من العقاب فيه. عهد تسوده "الحقيقة" والقانون. بل وكانوا يظنون أن هذا المسار ليس فقط قضائياً أو حقوقياً، إنما هو أيضاً قطيعة مع نمط مقيت من السياسة التي تتوسل العنف وتتلطى وراء قوة العصبيات والعدالة الاستنسابية وطمس كل حقيقة صوناً لتوازن الرعب بين الطوائف، و"المساواة" في الارتكابات المتبادلة وقانون الثأر..

والعبرة المحزنة اليوم، أن اللبنانيين باتوا موقنين أن لا عدالة دولية تنصفهم ولا عدالة وطنية أصلاً تنصرهم. هم مجردون من حقهم الإنساني الأول. وصلوا إلى هذا المآل ليس بسبب الخاتمة الذاوية للمحكمة الدولية وحسب، بل لما يشهدونه اليوم في مسار التحقيق القضائي بانفجار مرفأ بيروت، والعاصفة السياسية الطائفية التي ضربته وأطاحت به معنوياً وفعلياً.

حدث ما هو متوقع تماماً. القضاء اللبناني أعجز من أن ينزّه نفسه عن النظام السياسي، وأعجز من أن يواجه الحقيقة الطائفية أو أن يسمو عليها. بل أعجز من أن لا يكون طائفياً أو مستتبعاً سياسياً أيضاً. أعجز من أن يَتّهِم ولا يُتهم. هو قضاء يقوم به في نهاية المطاف محترفون حقوقيون قد لا ينقصهم الوقار. لكنهم أيضاً مواطنون لبنانيون لهم أعراضهم المعروفة اليوم بمدى تجذّر الفساد والحزبيات والنعرات فيهم.

ما أقدم عليه المحقق العدلي، القاضي فادي صوّان، بالادعاء على رئيس حكومة وثلاثة وزراء سابقين، قد يكون نابعاً من قناعة قانونية مسندة بأدلة وقرائن لا لبس فيها. وقد يكون "اقترف" فعلاً شجاعاً واستثنائياً.. لكن أيضاً تاريخ هذا القضاء وما لحقه من ابتذال مديد في تسييسه أو تطييفه أو استنسابيته، يصعّب إلى حد الاستحالة الوثوق التام بقراراته. وهي معضلة لا يُحصر ذنبها بالجسم القضائي وأهله بقدر ما هي من علل النظام الطائفي في نسخته الأخيرة حين التهم الدولة كلها، وكان القضاء يخسر مناعته ابتداء من زمن "الوصاية" السورية ومحاكمة سمير جعجع، وصولاً إلى محاكمة فايز كرم أو ميشال سماحة أو "إسلاميي" الشمال.. إلخ.

رغم كل ذلك، كنا نأمل دوماً أن تنكسر هذه الحلقة المفرغة من اللاثقة. أن نبتدئ مع قاضٍ ما بتحقيق ذاك الهدف: استقلالية القضاء. مع فادي صوان أو غيره.

وخطورة ما أقدم عليه القاضي صوان، إنه إذا كان قراره صائباً ومكتمل الأسباب والأدلة الدامغة ومحكماً في مقدماته وخلاصاته وخالياً من الاستنسابية، واستحال تنفيذه أو تراجع عنه تحت وطأة الحصانة الطائفية، فإن الضرر الذي سيصيب صدقية القضاء من الصعب إصلاحه. بل سيترسخ موت القضاء اللبناني كآخر ضحايا التفجير الكارثي، وكأول علامة كبرى على نهاية "الدولة".

أخطر من ذلك، أن ممثلي "الشعب" الذي اعتصم طوال 15 عاماً بمطلبي الحقيقة والعدالة، واستمات سياسياً من أجل التحقيق الكامل والشفاف، ومعاقبة المقترفين، وسيادة القانون، يرتدّون اليوم عن كل ذلك كرمى عيون المتهم حسان دياب، الذي صار فجأة رمزاً للطائفة وكرامتها! لقد كان بيان كتلة "المستقبل" النيابية يستعير على نحو مخزٍ تلك اللغة التي كان يستخدمها المتهم باغتيال رفيق الحريري: استهداف الطائفة.

إزاء هذا المشهد، الذي صممه القاضي صوان بين رسالته إلى مجلس النواب وقرار الادعاء لاحقاً، وما بينهما من تباين مدهش، مع تغييب صادم للحقيقة المسجّلة على لسان رئيس الجمهورية، والحقائق الأخرى التي تطال جملة مسؤولين مباشرين وغير مباشرين، معنوياً وأخلاقياً وفعلياً عن الكارثة، مضاف إليها رد الفعل الطائفي (المتوقع أصلاً مهما كانت طائفة المتهم).. نعود إلى أصل حالنا، غربتنا عن العدالة إلى أجل غير مسمى.  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024