انتفاضة التّطهّر من وباء السياسة والسياسيين

محمد أبي سمرا

السبت 2019/11/16
من السمات الأساسية الجديدة لانتفاضة 17 تشرين الأول 2019 في لبنان، أنها أنشأت هايد بارك تلفزيوني يومي وغير مسبوق في الساحات والشوارع العامة. فالتلفزيون شارك بقوة وفاعلية في صناعة الانتفاضة وشعبها وكلامها وصورها، وفي صناعة ساحاتها العامة، وبثِّ ما يقال فيها على مدار اليوم إلى البيوت. ومنذ بداية الانتفاضة انخرطت المحطات التلفزيونية اللبنانية الثلاث الأساسية فيها، وهي الأوسع جمهوراً بين المشاهدين: NTV، MTV، LBC. فأطلقت المحطات هذه جيشاً من مراسلاتها ومراسليها الميدانيين المحترفين، لنقل ما يدور ويحدث في الشوارع والساحات التي اتخذها المنتفضون والمتتفضات ميادين لتجمعهم وتظاهراتهم واعتصاماتهم.

والهايد بارك الذي ابتكرته الانتفاضة في يومياتها، ما كان يمكن أن ينشأ ويستمر لولا النقل والبث التلفزيونيين على مدار الساعة. فبرهن التلفزيون بديموقراطيته على الطريقة اللبنانية، أنه في قلب الحوادث، ومساهم أساسي في نشر صورها وأخبارها، بل في صناعتها، وبرهن اللبنانيون أنهم شعب تلفزيوني بامتياز، ويشكل التلفزيون مرآةً لحرياتهم وتفاعلهم وأنماط عيشهم وكلامهم.

عالم السياسة الملوث
وفي مرآة الهايد بارك التلفزيوني الذي أنشأته الانتفاضة، بدت انتفاضةً بريئة، أو انتفاضةَ البراءة السياسية، أو التبرؤ من السياسة وفضحها، باعتبارها في لبنان عالماً صفيقاً ملوثاً، مداره صفقات تناهب المال العام، وتكديسه في أرصدة الحسابات الخاصة لأركان السلطان السياسي والمالي الفاسدين والمفسِدين، وتوزيعه ريوعاً سوداء في ما بينهم، وعلى حاشياتهم وبطاناتهم ومواليهم.

وشبكات النهب وصفقاتها - وهي لبُّ السياسة اللبنانية وركنها وموضوعها وعالمها كله - سطت على مالية الدولة العامة فأنضبتها، وتركت الشعب اللبناني بلا خدمات ولا مرافق حياتية عامة أساسية، أو تركت المرافق العامة نهباً للإهمال والانهيار والخراب، أو مجالاً للتسلط عليها وتوظيف المحاسيب والأتباع فيها ليعتاشوا منها، ولاستجداء المساعدات الخارجية لإصلاحها وتحسين أدائها وخدماتها. فيجري تقاسُم نهب هذه المساعدات التي عزفت الدول المانحة أخيراً عن تقديمها، كما عزف المستثمرون عن توظيف أموالهم في مشاريع منتجة في لبنان.

وعالم السياسة والمال الملوث هذا مزمن في لبنان. وهو انطلق  انطلاقة جديدة غير مسبوقة في مطالع تسعينات القرن العشرين، بعد توقف الحرب الأهلية الإقليمية الملبننة. لكن هذا العالم بلغ ذروة فساده في السنوات الأخيرة، مع تزايد مناكفات أهل السلطان السياسي - المالي وشراهتهم، وتراشقهم التُهم والمهاترات، وتقاذفهم المسؤولية عن الإهمال والفساد المستشري في المرافق العمومية، وعن جمود الحياة الاقتصادية وتراجعها. وهذا كله بالتزامن مع تناقل الكلام المتواتر عن بداية انهيار مالي وشيك في البلاد.

رهط الهوس السلطوي
الذروة التي بلغها هذا العالم السياسي - المالي الملوث، فاقمها دخولُ عالم السياسة والسلطة والتمثيل رهط جديد من المتسلقين والوصوليين الجوعى إلى المناصب والسلطان وجني الثروات المالية منها. وتصدّر هذا الرهط الجديد نجمٌ سياسي صاعد، مستنفِرٌ ومستفِز، باستقوائه بحزب السلاح والحروب المهدوية الداخلية والدولية الدائمة. وبلغت استفزازاته الخرقاء أشدّها في خطبه الجوفاء السكرى بتسلقه السلطوي الأهوج.

وراح ذاك المتسلق والمهووس السلطوي يجول أسبوعياً على مناطق لبنانية كثيرة، مسوِّقاً نجوميته الاستفزازية. أدت إحدى جولاته إلى سقوط قتيل جعل النجمُ الصاعد دمَ قتيله متراساً لأزمة سياسية - أهلية بين أقطاب الحكم، فعطل جلسات مجلس الوزراء طوال شهر كامل. ثم أخذ يردّد أنه لم يعد يطيق لزعامته أن تبقى أسيرةَ القطيعة مع عرين ديكتاتورية الأسد الدموية المدمَّرَة والخَرِبة، وأنه يريد مشاركة الأسد في إعمارها على دماء شعبها المتخثر في ركامها، لإعادته إليها وتخليص لبنان من ضيقه العنصري بشعب سوريا اللاجئ، لأنه يشكل ثقلاً ديموغرافياً يهدد نقاء شعب لبنان وتقدمه الحضاري وكيانه الفريد في ديار الشرق، ويعوّق وصول النجم الصاعد إلى سدة الرئاسة اللبنانية، وريثاً لمن وصل إليها بصلافته الخرقاء المدمِرة.

وفي سياق صعود هذا المتسلق السلطوي المهووس، ارتفعت نسبة شيوع أخبار الفضائح المالية والأخلاقية في دائرة الوسط السياسي اللبناني. وشبت حرائق واسعة في مناطق ريفية من شمال لبنان إلى جنوبه. فهب أحد اقطاب رهط المتسلق السلطوي واتهم الطبيعة بالعنصرية، لأن حرائقها لم تلتهم مناطق الطوائف الأخرى في البلاد. وانطلق على الغارب تقاذف التُّهم والمسؤوليات بين أركان السلطة عن التقصير في اقتناء وسائل وتجهيزات إطفاء الحرائق. هذا وبلغت الفضائحُ ذروتها غير المسبوقة في: تلوث البيئة والأنهار والمياه الجوفية، وسلب الأملاك العامة واستثمارها استثماراً خاصاً، واستحالة معالجة النفايات ومكباتها المتخمة والعشوائية في الديار اللبنانية، إلى جانب فضائح صفقات بواخر توليد الطاقة الكهربائية، وسائر المشاريع العامة في البلاد.

ولم يبق قطاع وشأن من شؤون الخدمات الأساسية في لبنان خارج دائرة الفضائح والفساد. ولم يبق لأهل السلطان السياسي والمالي النهابين، كي يستمروا في مناصبهم وصفقاتهم، سوى فرض ضرائب عشوائية جائرة على قوت عموم الشعب وحاجاته وخدماته الأساسية، وعلى مداخيله القليلة المتضائلة والمتآكلة...

وانفجرت انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وانفجر غضبها في الشوارع والساحات، وتمددت من العاصمة بيروت إلى مناطق ومدن وبلدات لبنانية كثيرة، فهبت المحطات التلفزيونية الثلاث إلى متابعة يوميات الانتفاضة المتفرقة ونقل صورها وكلامها نقلاً متصلاً ومباشراً. وحصد متصدر رهط التسلق السلطوي المسعور، معظم غضب المنتفضين الذي أنصبَّ عليه في ساحات الهايد بارك التلفزيوني.

براءة كلام الانتفاضة
وسرى في المنتفضين نموذج عفوي وتلقائي للغضب وكلامه البريء في هايد بارك الساحات العامة التلفزيونية. فصدحت حناجر المنتفضين بالقول لمتصدري عالم السياسة والمال الملوث: هيا ارحلوا، تنازلوا عن مناصبكم ومكاناتكم التي انتدبناكم وانتخبناكم لتوليها وإدارة شؤوننا وأموالنا العامة، فحولتمونها نادياً مافيوياً مغلقاً لكم ولأرهاطكم وخواص محاسيبكم وأتباعكم، وجعلتم تتناهبون ريوعها وعوائدها في ما بينكم، وتركتموننا للفقر والبطالة والعوز والمرض والوجع والموت على أبواب المستشفيات، وللجوع والمهانات والتعاسة، ورحتم تكدّسون أموالنا المنهوبة في حساباتكم الخاصة في المصارف المحلية والخارجية.

وحتى حملة الشهادات الجامعية العليا منا، كسُدتْ شهاداتنا في سوق العمل الضيق المقفر من فرص العمل، إلا لخواص مواليكم وحاشياتكم. وصار على أبنائنا وبناتنا الشبان والشابات الرحيل والهجرة إلى ديار الله البعيدة، لتحصيل العمل والحياة والكريمة اللذين سُدّت أبوابهما في بلادنا...

هيا ارحلوا عنا، انزلوا عن كراسيّكم وتخلوا عن مناصبكم وسلطانكم. لقد جربناكم سنوات وسنوات، فتماديتم في غيِّكم وفسادكم ومناكفاتكم وتقاسم التسلط علينا ونهب أموالنا العامة. لم نعد نتحملكم ولا نتحمل بؤسنا وفقرنا وطّرْق أبوابكم الموصدة في وجوهنا للتصدق علينا بفرصة عمل صغيرة نشحدها منكم، كما نشحد فُتات موائدكم العامرة.

هيا حلوا عنا، نريد الخلاص منكم، لنُولّي سواكم علينا من أهل الاختصاص والكفاءة والأكف النظيفة، لإدارة شؤوننا بعيداً من زعامتكم وأحزابكم. كفاكم نهباً وتسلطاً. لا نريد أحداً منكم ومن أحزابكم في المؤسسات العامة والوزارات والمناصب. نريد أن نجرّب سواكم، علّهم ينقذوننا مما نحن عليه وفيه من انسداد آفاق حياتنا الآنية الراهنة والمستقبلية. لم نعد نطيق السياسة وأهلها، أنتم الذين حولتموها وسيلة للنهب والاثراء والفساد...

صلف السلطوي العجوز
هذا الكلام كله وأمثاله الذي تردّد يومياً ومديداً في الهايد بارك المتلفز والناشئ في الساحات العامة، فيما اختفت واحتجبت رهوط أهل السياسة والمناصب والمكانات وانكفأوا، وغابت مناكفاتهم ومهاتراتهم، وصمتوا صمتاً مريباً كأنما على رؤوسهم الطير.

وفي الأثناء  أخذ يطل تِباعاً على المنتفضين دهاقنة الصف الأول من أهل السلطان السياسي، فراحوا يرددون كلامهم المعسول للمنتفضين في الساحات والشوارع: نحن نتفهكم وأنتم أهلنا، وكلامكم كلامنا، ولم نفوّت فرصة لقوله قبلكم. لكن إياكم والسفارات والمندسين وأصحاب المآرب، فلا تدعونهم يستغلون انتفاضتكم الشريفة والبريئة، لغاياتهم ومآربهم... هيا غادروا الساحات، ولا تقطعوا الطرق، وسوف نحاول إنصافكم وخلاصكم من عثراتكم.

لكن المنتفضين لم يستجيبوا هذه النداءات، بل قالوا لمخاطبيهم من دهاقنة السياسة: عهودهم انتهت، هيا غادروا أنتم مناصبكم، لم نعد نصدّق أياً منكم. فما كان من زعيم رهط المتسلقين الجدد، العجوز، والذي يتدافع كلام غضبه السلطوي المسموم والمتعالي، فيعطل جهاز نطقه، إلا أن أطل من قصر الرئاسة الرسمية في مقابلة تلفزيونية طويلة، خاطب فيها المنتفضين قائلاً: راجعوا تاريخي، ومن منكم لا يعجبه هذا التاريخ التليد المشّرف، فليهاجر...

وانفجر غضب المنتفضين متجدداً وأقوى من ذي قبل، فراحوا يقولون لرئيس التاريخ المشرف: هيا ارحل أنت الذي قالوا إنك "بي الكل". فأي أبٍ أنت لا يعلم معنى الأبوة؟! وكان يجب على بناتك ومَن ولّيته سلطاناً على رهطك الحزبي، أن يرأفوا بك، فلا يعرضونك لمثل هذه المحنة من انكشاف عيائك وعجزك في إطلالتك التلفزيونية.

السياسة وباء كلها
هذا السرد للسيناريو الذي دار في هايد بارك الساحات العامة التلفزيونية، وفي رد أهل السلطان السياسي - المالي الملوثين، يتوخى القول إن كلام المنتفضين ينطوي على براءةٍ وتطهّر حميمين وعاطفيين من أهل السياسة وعالمها وعالمهم الموبوء والملوث والخبيث، الذي عرفوه وخبروه منذ عقود في لبنان. ذلك أن كلام المنتفضين ينطوي في معظمه على ما يشبه انتفاضة الأبناء على أهلهم وإخوتهم الكبار. وعلى اعتبار عمل الدولة والعلاقات السياسية وإدارة الشؤون العمومية شبيهاً بنسيج العلاقات الأهلية والقرابية والعائلية الحميمة والمجسَّدة والملموسة، الخالية من التجريد والتركيب.

ولذا هم يريدون لشؤونهم العامة إدارةً بريئة من السياسيين الخبثاء والسياسة الخبيثة. إدارة تقنية جديدة يتولاها اخصائيون بريئون أطهارٌ من الانتماءات السياسية والحزبية وأرهاطها التي خرجوا منها وعليها في انتفاضتهم، ينشدون الخلاص من عثراتهم وعثرات بلدهم المديدة. وهم في هذا يقولون إن السياسة والسياسيين وباء خالص. ولا نريد سياسة ولا سياسيين. بل نريد من سياسييّنا هؤلاء إخلاء مناصبهم، ليتركوننا وشأننا، بلا سياسة ولا سياسيين. ولدينا في بلدنا كثرة من الأخصائيين والتقنيين غير المسيسين والبريئين من الوباء السياسي، ونريد أن نولّيهم وننتدبهم لإدارة شؤوننا العامة.

أما كيف يمكن التنفيذ الإجرائي لنزع السياسة وولاية السياسيين وحجبها عنهم، ولتكليف الأخصائيين والتقنيين إدارة الشؤون العامة في الدولة والبلاد؟ فهذا ليس شأننا ولا هو من مهامنا، يقول المنتفضون.

وقد يكون العزوف عن الجواب عن هذا السؤال الإجرائي والتنفيذي (وهو مسألة سياسية بامتياز)، من علامات حكمة الانتفاضة التي اقتصر مطلبها على الخروج من السياسة وعليها، بصفتها وباء مجرَباً، ولا يمتلك المنتفضون أية وصفة سياسية ليقترحوها خلاصاً من السياسة كما عرفوها وتجرعوا سمومها وويلاتها طوال عقود في لبنان.

لكن هذا العزوف الحكيم قد لا يؤدي، في أحسن الأحوال، إلا لبقاء السياسيين في مناصبهم وبقاء وبائهم السياسي على حاله، وبقاء المنتفضين في الساحات والشوارع وإحيائهم الهايد بارك التلفزيوني. غير أن هذا يصعب أن يستمر. وقد يكون محطة أولى في عملية اجتراح قول سياسي جديد، لا يخلو من الصعوبة والاختبار والتجريب.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024