الناس بألف خير

نديم قطيش

الإثنين 2016/02/15

من الكثير الذي اذكره للصحافي الراحل نصير الاسعد إنحيازه لمصطلح “الناس”. البيك اليساري كان يرى في مصطلح “الشعب” مفردة توتاليتارية ممجوجة في ثقافة اليسار السياسية، او مفردة يراد منها توتاليتارية ما. ارتاح لمصطلح “الناس” لما كان يحسه فيه من اصالة وعفوية في تعبير السياسي او الحزب عن اصحاب مصالح محددون وواقعيون وحقيقيون.  على خلاف الشعب، كمعطى عام وكبير وغائم، كان يعتبر ان مفردة الناس حسية. حين يقولها السياسي فهو حتماً يعني “ناساً” يعرفهم، يرونه ويراهم. البائع والجار والقريب والصديق وصديق الصديق وقريب القريب. ناس بوسعهم محاسبته على خيارته، وبوسعه ان يعاين بأم العين أثر سياسته وأثمان خياراته عليهم. وهم معيار الصواب والخطأ الذي لا يمكن تعميته وتجهيله تحت قناع مفردة الشعب، الكثير والمديد. 

أذكر تلك المحادثة اليوم، وهي كانت في معرض المقارنة بين ثقافة المقاومة الوطنية والمقاومة بصيغتها الاخيرة، اي حزب الله، وبعد حرب تموز تحديداً بسنتين، وفي سياق معاينة البيك لفداحة غياب “الناس” من سياسات وخيارات حزب الله، رغم كل الدعاية التي تقول عكس ذلك! 

فالناس، كما اعتقد البيك صائباً، معيار حق وحقيقة. والناس بالامس، في البيال وعلى مواقع التواصل، كانوا معيار تصحيح لإنطباعات سياسية  ولدتها مواقف وخيارات الاشهر الماضية داخل ١٤ آذار.

ليس خافياً أننا جزء من منطقة تمر بأدق مرحلة في تاريخ كياناتها السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الاولى. وأن طبيعة الكثير من المعارك التي تخاض في الاقليم، مباشرة او ضمناً، هي معارك ذات مواصفات وجودية. 

الاكراد في سوريا بعد العراق هم الاوضح تعبيراً عن المتغيرات العميقة لهذه المرحلة ونتائجها، والاكثر إجتهاداً عسكرياً وسياسياً للفوز بحكم ذاتي على طريق دولة كردستان الكبرى، لكن الكارثة التي حلت وتحل بالمسيحيين والسنة في المشرق لا تقل توليداً للرهاب الوجودي!! 

بهذا المعنى لم يكن من باب المبالغة وضع مسار التقارب بين الجنرال ميشال عون والدكتور سمير جعجع في خانة شعور اغلبية مسيحية، او قادة اغلبية مسيحية على وجه أدق، في خانة التعامل مع الخطر الوجودي المحدق بأكثر من مجموعة من مجموعات المشرق! الاكراد في سوريا، بعد العراق، هو التعبير الاقصى عما يعتمل في العقل السياسي لزعماء الاغلبية المسيحية في لبنان، وما تزال تجري مداراته وتلوينه بألوان وحدوية جامعة. الشيعة ليسوا بعيدين، وفق تصور قيادتهم، عن هذا الخيار لا سيما أن سوريا العلوية انتهت الى غير رجعة ولو طال السفر. 

وإذ أحصر عمداً المسألة في القيادات وخياراتها وقراءاتها للجاري في الاقليم، وللنخب التي تشتغل بالموضوع، فلأني اريد العودة الى الناس. 

الناس التي عبرت عن فرحها أمس بالعناق بين الدكتور سمير جعجع والرئيس سعد الحريري، لا سيما الاصوات المسيحية التي، في الاشهر الماضية، اعترضت وصرخت وعاتبت وخاصمت، قالت أمراً مختلفاً عما نقوله نحن، سياسيون ومعلقون!! الناس لم تذهب بعيداً بقدر ما ذهبنا في تقدير حجم الطلاق بين اللبنانيين، او التباعد او التنافر! الناس، قالت انها أكثر إصراراً من قادتها على فكرة العيش معاً، وأنها في استنتاجاتها وخياراتها، رغم كل الحاصل حولنا، أقل عدمية وكابوسية. 

هذه الاصوات، معطوفة على فسحة إلتقاط فتية كشاف المستقبل الصور مع الدكتور جعجع في البيال، لفترة طالت أكثر مما يسمح بها جهاز أمنه الشخصي، تقول أن اللحمة بين المسلمين والمسيحيين، عند الناس، لا تزال رهاناً كبيراً في ١٤ آذار! وأن هذه اللحمة لا تزال عصية على مشرط الخرائط والكيانات والجماعات الذي يعمل في المنطقة وفي وعي القيادات السياسية. 

“الناس” لا تزال بخير.. حظاً موفقاً لـ ١٤ آذار في استخلاص دروس الناس.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024